جواب إشكال حول حديث الثقلين

وردني سؤال عبر موقعي، نصُّه:

السلام عليكم

 لاحظت أن جنابكم تستدلّون في كتبكم على وجود الإمام المهدي بحديث الثقلين، بجملة: «لن يفترقا».

إذن فما تقول في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله: «علي مع القرآن والقرآن مع علي، لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض»، فهو مثل حديث الثقلين، والإمام علي قد استشهد.

فكيف يصح استدلالك؟

والجواب:

قد قلت في بعض كتبي في الاستدلال على وجود الإمام المهدي المنتظر في هذا العصر: أنا إذا لم نقل بولادة الإمام المهدي عليه السلام وبقائه، فإنه يلزم خلو هذا العصر من إمام من العترة النبوية الطاهرة، ولا يكون أيّ مصداق في هذا العصر لحديث الثقلين، وهو قوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إني تاركٌ فيكم الثَّقَلين: كتاب الله وعِتْرتي أهل بيتي، ما إن تمسَّكتم بهما فلن تضلُّوا بعدي أبداً، وإنهما لن يفترقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما).

وذلك لأن الإمام المهدي عليه السلام إذا لم يكن موجوداً فلا إمام آخر من العترة النبوية الطاهرة يصلح للتمسّك به، ولا يكون لهذا الحديث أي معنى في عصرنا، فيكون باطلاً، وهذا لا يصح أن يقال، فإن الحديث قد دلَّ بوضوح على وجود متأهِّل من أهل البيت صالح للإمامة في كل عصر إلى أن تقوم الساعة، وإلا لحصل التفرق بين الكتاب والعترة المنفي في الحديث. (من هو خليفة المسلمين في هذا العصر: 50، مسائل خلافية حار فيها أهل السنة: 134).

ويمكن أن نجيب على نقض هذا السائل بعدة إجابات:

1- أن حديث (علي مع القرآن) أخرجه من حفّاظ الحديث من أهل السنة اثنان:  

1- الحاكم النيسابوري في المستدرك 3/134.

2- الطبراني في معجميه الصغير 1/255، والأوسط 3/376.

وهذا الحديث وإن صحّحه الحاكم في المستدرك والذهبي في التلخيص إلا أنّ جمعاً من أهل السنة ضعفوه، منهم:

الألباني في ضعيف الجامع الصغير: 555 (حديث 3802)، ومحمد بن محمد درويش الحوت الشافعي في أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب: 185، وغيرهما.

 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وفيه صالح بن أبي الأسود، وهو ضعيف.

ومثل هذا الحديث لا يمكن لمن لا يعتقد بصحّته أن يحتجّ به في شيء، خصوصاً في فهم حديث آخر صحيح وهو حديث الثقلين الذي صحّحه جمع كبير من حفّاظ الحديث.

2- أن الحديث برواية الحاكم النيسابوري في المستدرك 3/134، ورد فيه (لن يتفرّقا).

وأمّا برواية الطبراني في معجميه الصغير 1/255، والأوسط 3/376، فقد ورد فيه: (لا يفترقان).

وقد نقله عنهما السيوطي في الجامع الصغير 2/177 بلفظ: (لن يفترقا).

ومما ينبغي التنبيه عليه هو أن هناك فرقاً في اللغة بين الافتراق والتفرّق، وهو أن الافتراق يكون في الرأي، وأمّا التفرّق فيكون في الأجسام.

قال أبو عمر - غلام شعبة -: سأل أبو موسى أبا العباس - يعني ثعلباً -: هل بين (يتفرّقان) و (يفترقان) خلاف؟

قال: نعم؛ أخبرنا ابن الأعرابي عن المفضل قال: يقال: «افترقا» بالكلام و«تفرَّقا» بالأجسام. (بدائع الفوائد) لابن القيم 2/982.

وعليه، فإن الحديث برواية الطبراني الذي ورد فيه (وإنهما لا يفترقان) يدل على أن الافتراق المنفي في الحديث بين الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وبين القرآن هو الافتراق في الرأي، فيكون المراد بالحديث هو أن عليًّا عليه السلام لا يفترق عن القرآن في جميع أقواله وأفعاله، فإنها كلها مطابقة للقرآن وموافقة له، فلا يصدر عنه خطأ، لا عمداً ولا غفلةً ولا نسياناً ولا سهواً، وإلا لافترق عن القرآن.

قال الأمير الصنعاني في التنوير شرح الجامع الصغير: وهذا الحديث من أدلة العصمة؛ لأن من لازم القرآن ولازمه القرآن لا يأتي معصية؛ إذ لو أتاها لفارقه القرآن، والحديث يشهد بأنه لا فراق بينهما، فالحديث من أجل أدلة فضائله وأدلة علمه بتأويله؛ فإنه لا يلازم إلا من عَرف معانيه، وقد ثبت أن ابن عباس أكثر الصحابة علماً بالتأويل وقد قال: ما أخذتُ في تفسيره - أي القرآن - فعن علي رضي الله عنه، وقد أخرج الدارقطني أن عمر سأل علياً عن مسألة فأجاب، فقال: أعوذ بالله أن أعيش في قوم ليس فيهم أبو الحسن. ونظائر هذا كثيرة جداً. (التنوير شرح الجامع الصغير 7/335).

وفائدة قوله : «حتى يردا عليَّ الحوض» هي الدلالة على أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لن يغيّر بعد رسول الله ولن يبدِّل إلى حين شهادته، ويكون في جميع أقواله وأفعاله موافقاً للقرآن والقرآن موافقاً له، حتى لا يزعم زاعم بأنّ علياً عليه السلام قد ضلّ بعد رسول الله كما زعم الخوارج، أو أنه قد أخطأ كما زعم أصحاب الجمل وصفين.

والحديث بهذا المعنى الذي قلناه لا يمنع من التفرّق في الأجسام، فإن الحديث لم ينف التفرق بين علي عليه السلام والقرآن، فلا إشكال من هذه الناحية في الحديث، ولا يصح معارضة حديث الثقلين به.

وأما الحديث برواية الحاكم في المستدرك، الذي ورد فيه قوله: (وإنهما لن يتفرّقا)، فإنه مخالف لما هو معلوم بالقطع واليقين، من استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام في سنة 40هـ، الذي به قد حصل التفرّق بينه عليه السلام وبين القرآن في الأجسام.

وعليه، فإن اللفظ الصحيح هو قوله : (لا يفترقان) كما ورد في رواية الطبراني في معجميه الصغير والأوسط، وأما ما ورد في رواية الحاكم في المستدرك فهو خطأ من أحد الرواة قطعاً، والرواة ربما يخطئون في أمثال هذه الألفاظ المتقاربة في اللفظ المختلفة في المعنى، فيذكرون كلمة بدل كلمة أخرى.

وحديث الثقلين وإن ورد فيه قوله: (لن يتفرّقا)، كما في سنن الترمذي 5/663، والسنن الكبرى للنسائي 7/310، 437، ومسند أحمد بن حنبل 5/181، 189، والمستدرك 1/172، 3/118، 160، وكتاب السنة لابن أبي عاصم 2/351، 642-644. والمعجم الأوسط للطبراني 3/374، 4/33، والمعجم الكبير 5/154، 166، 169، 170، والمصنف لابن أبي شيبة 6/309، وفضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2/585، 603، 779، وخصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للنسائي: 96، وغيرها.

وكذا ورد في طرق أخرى له قوله: (لن يفترقا) كما في مسند أحمد بن حنبل 3/14، 17، 26، 59. والمعجم الصغير للطبراني 1/226، 232. والمعجم الكبير للطبراني 3/66. ومسند أبي يعلى الموصلي 2/297، 303، 376. والطبقات الكبرى 2/294، وغيرها.    

إلا أن هذا لا يدل على خطأ الرواة في إحدى الروايتين؛ لأن الحديث حينئذ يفيد أن أئمّة العترة النبوية الطاهرة لا يفترقون عن القرآن في الرأي، ولا يتفرقون عنه في الأجسام حتى يردا الحوض، وهذا يدل على أنه لا بدّ من وجود إمام منهم لا يفترق عن القرآن ولا يفترق القرآن عنه في كل عصر.

3- أن ما ذكرتُه في بعض كتبي من أن حديث الثقلين يدل على وجود إمام صالح لأن يُتمسَّك به من أئمة العترة النبوية الطاهرة في كل عصر، هو ما فهمه من هذا الحديث بعض علماء أهل السنة.

فقد ذكر الأمير الصنعاني في كتابه التنوير في شرح الجامع الصغير 4/216، والمناوي في فيض القدير في شرح الجامع الصغير 3/14، عن الشريف أنه قال: هذا الخبر يُفهم وجودَ من يكون أهلاً للتمسّك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كل زمن إلى قيام الساعة حتى يتوجّه الحث المذكور إلى التمسّك به، كما أن الكتابَ كذلك، فلذلك كانوا أماناً لأهل الأرض، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض. انتهى كلامه.

وقال ابن حجر الهيتمي المكي في الصواعق المحرقة: والحاصل أن الحث وقع على التمسك بالكتاب وبالسنة وبالعلماء بهما من أهل البيت ويستفاد من مجموع ذلك بقاء الأمور الثلاثة إلى قيام الساعة. (الصواعق المحرقة 2/439).

وقال أيضاً في موضع آخر: وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة كما أن الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض كما يأتي، ويشهد لذلك الخبر السابق: «في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي» إلى آخره. (نفس المصدر 2/442).

وعليه، فإن حديث الثقلين يدل على ذلك بغض النظر عن أيّ حديث آخر، وسواء دل حديث «علي مع القرآن» على بقاء أمير المؤمنين عليه السلام وعدم تفرقه عن القرآن إلى قيام الساعة أم لم يدل، فإن ذلك لا يؤثر على صحة دلالة حديث الثقلين على وجود إمام من أئمة أهل البيت عليهم السلام في كل عصر؛ لأن حديث «علي مع القرآن» لا علاقة له بحديث الثقلين، وليس قرينة لفظية تبين المراد منه.

4- أنّ قوله : «لن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوض» في حديث: «علي مع القرآن»  بحسب رواية الحاكم في المستدرك، لا بدّ فيه من العدول عن ظاهره؛ فإن ظاهره يثبت بقاء أمير المؤمنين غير متفرق عن القرآن إلى قيام الساعة، وهذا باطل جزماً؛ لأنه قد ثبت بالقطع واليقين أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قد استُشهد في الكوفة، ولا يخفى أن ظاهر الكلام إنما يكون حجة ويجب الأخذ به إذا لم يعارضه ما هو أقوى دلالة منه، وظاهر الكلام إنما يفيد الظن لا أكثر، ولا شكّ في أن القطع أقوى من الظن، فإذا تعارضا فلا بد من طرح الظن والأخذ بالقطع.

والنتيجة: أن ظاهر هذه الفقرة في حديث الثقلين يؤخذ به، لعدم دليل يدل على بطلانها، بخلاف ظاهر الفقرة ذاتها في حديث (علي مع القرآن) برواية الحاكم النيسابوري، فلا بد من تأويلها بما لا يتعارض مع ما هو معلوم من استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام.

5- أن الشيعة رووا حديث «علي مع القرآن» مشتملاً على لفظين:  

1- قوله : «لا يفترقان»، كما رواه شيخ الطائفة الشيخ محمد بن الحسن الطوسي قدّس سرّه في أماليه: 460، 479.

2- قوله : «لن يفترقا»: كما رواه منتجب الدين ابن بابويه في كتابه الأربعون حديثاً: 73، والإربلي في كتابه (كشف الغمة في معرفة الأئمة) 1/146.

وعليه، فإن الحديث برواية الشيعة الموافقة لرواية الطبراني لا يصح أن يُعارَض به حديث الثقلين في الدلالة على وجود إمام من العترة النبوية الطاهرة في كل عصر، والخصم إذا أراد أن يحتج على الشيعة بهذا الحديث فعليه أن يحتج عليهم بما ورد في روايتهم، لا ما ورد في رواية غيرهم.

والحاصل: أن ما دلَّ عليه حديث الثقلين من وجود إمام في كل عصر من العترة النبوية الطاهرة لا يتفرّق عن القرآن، لا يصح النقض عليه بحديث: «علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض»، والحمد لله رب العالمين.

للمشاهدة انقر على هذا الرابط: 

https://youtu.be/c0HfDT7haFo