نظرية داروين

ورد إلينا سؤال نصّه:

لِـمَ لا تؤمنون بنظرية داروين؟ ما الدليل على بطلانها؟

فأجبنا عليه بما يلي:

1- أنّ نظرية داروين مختلف في قبولها: فإنّ السائل فرض مسبقاً أنّ المسلمين يرفضون نظرية داروين، ويرون بطلانها، والحال أنّ هذه النظرية هي إحدى نظريات علم الأحياء، وعلماء المسلمين المعاصرين قالوا كلمتهم في هذه النظرية ما بين مؤيِّد لها ومعارض، حالهم حال علماء الغرب في هذه النظرية.

وأمّا علماء الشريعة فليس من دأبهم البحث في نظريات علم الأحياء أو الكيمياء أو الفيزياء أو الذّرّة أو غيرها، وبحوثهم منحصرة في علوم مختصّة بالشريعة وما يرتبط بها، كعلوم اللغة والمنطق والفلسفة ونحوها.

ولأجل ذلك فإنّ عامّة علماء الدين لم يذكروا رأيهم في نظرية داروين، تأييداً أو رفضاً، وإن كان بعض العلماء قد بحث هذه النظرية بإيجاز، مثل الشيخ محمد حسن آل ياسين ݞ في كتابه القيّم: (الإنسان بين الخلق والتطوّر)، حيث تكلّم حول هذه النظرية، وذكر ما فيها من خلل، فمن أراد الاطلاع على ذلك فليراجع كتابه المذكور.

وكذلك الشيخ محمد الرِّضا النجفي الأصفهاني (1287-1362هـ) في كتابه (نقد فلسفة داروين)، وهو مطبوع.    

2- أنّ نظرية داروين لا تستلزم الإلحاد: فإنّ صاحب هذه النظرية وهو تشارلز روبرت داروين Chales R. Darwin (1809-1882م) قام ببحوث متعدّدة في علم الأحياء، وتوصّل إلى أمور مهمّة كان لها دور أساس في تطوير هذا العلم.

والكلام حول هذه النظرية تارة يكون من جهة أنّها إحدى نظريات علم الأحياء، وأنّها صحيحة على حسب قواعد هذا العلم أم لا؟

وتارة أخرى في أنّ هذه النظرية هل تنفي وجود خالق للكون، أم لا؟

أمّا من الجهة الأولى فهو مجال المتخصّصين في علم الأحياء، ونحن لا شأن لنا بنظريات علم الأحياء عامّة؛ لأنّه خارج عن اختصاصنا، وعلماء الأحياء قالوا ما عندهم في هذه النظرية، والكلام في هذه النظرية لحدّ الآن لم ينته بعد.

وأمّا من الجهة الثانية، فإنّ بعضهم يظنّ أنّ نظرية داروين تستلزم الإلحاد وإنكار الخالق، وهذا غير صحيح؛ لأنّ المنقول عن أداروين نفسه أنّه كان يعتقد بوجود الخالق سبحانه، حيث قال:

Reason tells me of the extreme difficulty or rather impssibility of conceiving this immense and wonderful of looking far into futurity, as the result of blind chance or necessity. When thus reflecting I feel compelled to look to a First Cause having an intelligent mind in some degree analogous to that of man; and I deserve to be called a Theist[1] .      

وترجمة كلامه ما يلي: قانون العِلّيّة يخبرني أنّ من الصعب جدًّا، بل من المستحيل، أن نتصوّر أنّ كوناً ككوننا، وبه مخلوق يتمتّع بقدراتنا الإنسانية الهائلة، قد نشأ في البداية بمحض الصدفة العمياء، أو الحاجة والضرورة، وعندما أبحث حولي عن السبب الأول وراء هذا الوجود، أجدني مدفوعاً إلى القول بمصمِّم ذكي، ومن ثمَّ فإنّي أؤمن بوجود الإله[2] .

ومن يزعم أنّ نظرية داروين تؤكّد الإلحاد وعدم الاعتقاد بالخالق فهو لم يفهم النظرية بصورتها الصحيحة، فإنّ داروين إنّما تناول ببحثه عصر ما بعد الخليّة، التي هي أساس الحياة بكلّ صورها، ولم يتناول عصر ما قبل الخليّة، وهو لم يكشف لقُرّائه كيف نشأت الحياة في هذه الخليّة البسيطة، ومن أين اكتسبت سرّ الحياة الذي جعل من المادة الجامدة كائناً حيًّا.

قال الدكتور عمرو شريف:

كان دارون يؤمن أنّ الخليّة الحيّة الأولى وراءها خالق عظيم، ثمّ تولّت الطبيعة تطويرها إلى ما نشهده الآن من مختلف الكائنات. انظر ماذا فعل تلامذة دارون ومريدوه بنظريّته، حتى صيّروه رمزاً للإلحاد[3] .

وقال جورج حنّا:

كانت نظرية دارون لقرن مضى موضوعاً للنزاع والمساجلة.. كان الدِّين ينكرها.. وكانت الكنيسة تكفّرها.. باعتبارها إنكاراً لوجود الخالق، غير أنّ النظرية الداروينية لا تنفي وجود الخالق، كما أنّها لا تتعرّض لإثبات وجوده، ما تنكره هذه النظرية كون الإنسان خُلق إنساناً على الشكل الذي هو عليه الآن.. وتقول: إنّ الإنسان صار إلى ما هو عليه الآن عن طريق النّمو والتّحوّل والارتقاء بمقتضى ناموس الاصطفاء النوعي الطبيعي[4] .

إلى أن قال:

أمّا دارون فلم يتطرّق إلى السؤال: من أين نشأت الحياة؟ أو كيف نشأت؟ ولم يتعرّض إلى البحث فيما إذا كانت الحياة هي خَلْق من قوّة فوق الطبيعة، أم هي حصيلة تفاعل بين موادّ غير ذات حياة[5] .

3- تطوُّر نظرية داروين: فإنّ النظرية التي جاء بها داروين قد تغيّرت تغيُّراً كبيراً، والنظرية التي يقول بها أتباع داروين مغايرة من جهات عديدة للنظرية التي جاء بها داروين نفسه، فإنّ داروين لا يرى أنّ نظريّته تنفي الخالق سبحانه كما مرّ، ولكنّ كثيراً من أتباعه يرون أنّها تتنافى مع وجود الخالق، مضافاً إلى أنّ داروين كان لا يقول بالطفرة، ويذهب إلى أنّ التطوّر قد حصل ببطء شديد جدًّا عبر ملايين السنين، وكلماته الكثيرة تدلّ على ذلك بوضوح شديد.

قال داروين:

أمّا الأسباب التي حملتني على الشكّ في أنّ الأسباب الطبيعية قد تحوّلت بشكل فجائي... فعائدة إلى أنّ تجاربنا السابقة غالباً ما ساقتنا إلى الاعتقاد بأنّ التحوّل الفجائي ذا الأثر الواضح الجلي، لم ينشأ في الصور المؤلَّفة إلا بشكل فردي، ولم يحدث إلا في خلال فترات متباعدة من الزمان.

وقال أيضاً: أمّا القول بأنّ أنواعاً عديدة قد نشأت وتطوّرت متنقلة في التدرّج بطيئة جهد البطء، فذلك ما لا سبيل إلى التشكيك فيه بحال من الأحوال.

وقال في موضع آخر: إنّ علم النشوء الجنيني ليقوم حائلاً دون الاعتقاد بمثل هذه الطفرة النشوئية.

وصرّح بنفي اعتقاده بالطفرات فقال: إنّ آية الطبيعة الثابتة: أنْ لا طفرة في الطبيعة.

وقال:

وهكذا فإنّ القانون الذي يقول: «ليس في الطبيعة طفرات»، والذي نحيل كلّ إضافة جديدة إلى معلوماتنا نحو تأكيد صحّته، يصبح على أساس هذه النظرية معقولاً بكلّ بساطة.

وصرّح في مواضع كثيرة من كتابه بأنّ التغييرات تحدث ببطء شديد، فقال: إنّ لدينا من الأسباب ما يجعلنا نعتقد ... أنّ كلّ التغيّرات تحدث في بطء.

وقال في موضع آخر:

وحيث إنّ الانتخاب الطبيعي لا يعمل فقط إلا بتجميع التغيّرات الطفيفة المتعاقبة النافعة فليس في قدرته أن يُنتج تحوّرات فجائية أو كبيرة، إنّه يعمل بخطوات قصيرة بطيئة[6] .

وقال أيضاً:

الطريقة غير المتوقّعة التي تظهر بها فجأة مجموعات كاملة من الأنواع الحيَّة في بعض التكوينات قد قام جدال عليها بين العديد من الخبراء في علم الإحاثة... على أساس أنّها اعتراض قاتل للإيمان بتحوُّل الأنواع الحيَّة، وإذا كان العديد من الأنواع الحيَّة التابعة لنفس الطبقات أو الفصائل، قد بدأت حقيقة في الدخول إلى الحياة في وقت واحد، فإنّ هذه الحقيقة سوف تكون بمثابة ضربة قاتلة إلى النظرية الخاصّة بالارتقاء من خلال الانتقاء الطبيعي؛ وذلك لأنّ النّشأة بهذه الطريقة لمجموعة من الأشكال الحيَّة جميعها قد انحدر من سلف واحد ما، لا بُدّ من أنّها كانت عملية بطيئة إلى أقصى حدّ، وهذه الأسلاف لا بُدّ من أنّها قد عاشت في وقت طويل قبل ذراريها المعدَّلة[7] .  

وأمّا الداروينية الحديثة فهي معتمدة على الطفرة العشوائية والانتخاب الطبيعي.

قال الدكتور عمرو شريف:

قد واجهت النظرية العديد من الاعتراضات التي كادت أن تقضي عليها، وفي محاولات لإنقاذ الداروينية وُضعت العديد من النظريات لتلافي ما وُجّه إليها من نقد، وأصبح يُطلق على هذه النظريات اسم: الداروينية الحديثة[8] .

إذا اتّضح ذلك نتساءل، فنقول: أيّ النظريتين يريد منّا السائل أن نؤمن بها، هل النظرية الأصلية لداروين؟ أو الداروينية الحديثة؟

4- أنّ نظرية داروين تتكوّن من شِقّين:

الشِّقّ الأول: هو أنّ الكائنات الحيّة تتطوّر وتتغيّر، والتطوّر في نفس النوع الواحد قد أصبح من المتسالم عليه في علم الأحياء في هذا العصر، بل صار حقيقة علمية ثابتة لا نقاش فيها.

وأمّا تطوّر الكائنات الحيّة من نوع إلى نوع آخر مختلف عنه في خصائصه الوراثية فإنّه لم يُتسالم عليه بعد، بل ردّه كثير من علماء الأحياء؛ لأنّ عمر الحياة على الأرض لا يكفي لتطوّر بعض هذه الكائنات إلى كائنات أخرى، فضلاً عن تطوّر الجميع.

مضافاً إلى أنّ العلماء ذكروا أنّ جميع الكائنات الحيّة وُجدت في العصر الكامبري في انفجار مفاجئ لأسلاف الحيوانات المعروفة الآن، والانفجار الكامبري Cambrian explosion ابتدأ من قبل 541 مليون سنة، واستمرّ مدّة تتراوح بين 20-25 مليون سنة، وهذه الفترة ليست كافية لتطوّر كلّ أنواع الكائنات الحيوانية والنباتية من خليّة واحدة فقط[9] .

والشِّقّ الثاني: هو أنّ الكائنات الحيّة تطوّرت ببطء شديد عبر ملايين السنين، بسبب الانتخاب الطبيعي للأصلح، ولكن هذا الكلام فيه إشكالات عديدة، باعتبار أنّ تحوّل كائن أحادي الخليّة إلى ملايين الأنواع من الحيوان والنبات يحتاج إلى مليارات من السنين، أكثر بكثير من عمر الخليقة المقدَّر بـ  4.5 مليار سنة، ولذلك ذهب أتباع داروين بعد ذلك إلى أنّ سبب التطوّر هو الصدفة والطفرات العشوائية، وهذا ممّا لم يُتسالم عليه بعد، ولم يصل بعد لأن يكون حقيقة علمية، بل إنّ كثيراً من علماء الأحياء ينكرونه، فإنّ جملة منهم ذهبوا إلى أنّ سبب تطوّر الكائنات الحيّة هو التطوّر المُوَجَّه من قبل مُصمِّم ذكي، وهو الخالق سبحانه، وأمّا الطفرات العشوائية فكما قال الدكتور عمرو شريف:

ليست إلا «أخطاء تحدث في تتابع الحروف التي تتكوّن منها الشفرة الوراثيةDNA ، وينبغي لهذا التعديل أن يقع في الخلايا التناسلية (الخلايا التي تنتج الحيوانات المنوية والبويضات)، وليس في أيٍّ من خلايا الجسم الأخرى. ويقدِّر علماء البيولوجيا أن معدّل حدوث الطفرات يبلغ 4 طفرات في كل 100,000 حيوان منوي أو بويضة، كما يقدّرون أن تكون الطفرات ضارّة، وربّما تكون ذات فائدة في 1% من الحالات، فهل يمكن لهذه النسبة الضئيلة جدًّا من الطفرات المفيدة أن توجّه تطوّر الكائنات الحيّة؟ خاصّة إذا أخذنا في الاعتبار أنّ أيّ تعديل في وظيفةٍ ما يحتاج إلى العديد من التغيّرات التي تعمل في تآزر وتوافق.

وإذا كان تطوّر الحصان - كما يخبرنا الداروينيون - قد احتاج إلى 65 مليون سنة، وهو تطوّر في إطار النوع نفسه، أي بقي الحصان حصاناً، ولم يتبدّل إلى نوع آخر، فهل يكفي عمر الحياة على الأرض لكي تتطوّر الأحياء من كائنات ذات خليّة واحدة إلى هذه الملايين من الأنواع المعقّدة والراقية من الحيوانات والنباتات؟ إنّ الأرقام والحسابات تفضح تماماً وبقطعية رياضية لا تدع مجالاً لأيّ تأويل أو عذر مدى تهافت فرضية التطوّر الدارويني العشوائي، ومدى بُعدها عن الواقع وتعارضها مع العلم.

ويوجّه فرنر آربر Werner Arber نظرنا إلى أنّ التجارب التي قام العلماء فيها بإحداث تغييرات في الشفرة الوراثية لذبابة الفاكهة أنتجت أشكالاً مشوَّهة من الذباب (بعضها بدون أجنحة، وبعضها تخرج أرجله من رأسه)، لا تصلح لأن تكون دليلاً على دور مفيد للطفرات العشوائية، بل تُعتبر هذه التجارب دليلاً على عجز الطفرات؛ إذ لم يحصل العلماء في معاملهم على تغيُّر واحد للأفضل في 800 جيل من ذبابة الفاكهة...

ويضيف جيرالد شرويدر Gerald Schroeder في كتابيه الرائعين: (علم الألوهية) و (الوجه الخفي للإله): إنّنا إذا تغاضينا عن كلّ جوانب عجز الطفرات العشوائية عن إحداث تغييرات مفيدة، فسيتبقّى أمام الدراونة عائق كبير لا يمكن التغاضي عنه، هذا العائق هو أنّ الوقت المتاح لظهور هذا التنوّع الهائل في الكائنات الحيّة عشوائيًّا غير كافٍ على الإطلاق، إذ يبيِّن سجل الحفريات أنّ:

- الأربع والثلاثين شعبة من الحيوانات التي تشكّل المملكة الحيوانية ظهرت كلّها في 5-10 ملايين سنة، تمثّل الانفجار الأحيائي الكمبيري.

- الحيوانات المختلفة ظهرت في هذه الفترة مكتملة التصميم، ومحمّلة بشفرات وراثية جديدة، دون احتياج إلى تعديلات أساسية حتّى الآن.

ومن نفس المنطلق (الوقت القصير جدًّا) يرفض بيتر براون Peter Brown (رئيس اتّحاد رؤساء تحرير المجلّات العلمية) أن تكون الطفرات العشوائية مسؤولة عن حدوث التطوّر»[10] .

والحاصل أنّ نظرية داروين لها شِقَّان، أحد شقّيها صار من المسلَّمات في علم الأحياء الحديثة، وأمّا الشِّقّ الآخر فإنّ كثيراً من علماء الأحياء ينكرونه، ولا يسلّمون به.    

 5- أنّ كثيراً من المتخصِّصين رفضوا نظرة داروين: فإنّ علماء غربيّين متخصّصين أنكروا هذه النظرية، وانتقدوها، وبيّنوا ما فيها من الخلل في كتب كتبوها في ذلك، منهم: 

1- ديفيد بيرلينسكي David Berlinski: وُلد في سنة 1942، فيلسوف أمريكي ومدرّس ومؤلّف، عضو في مركز العلوم والثقافة من معهد ديسكفري، وهو من منتقدي نظرية التطوّر، نشر كتابه الشهير (وهم الشيطان) عام 2008م، وله حوارات ينتقد فيها نظرية التطوّر[11] .

2- مايكل دنتون Michael John Denton: وُلد في 1943، وهو كاتب بريطاني استرالي، متخصّص في الكيمياء الحيوية، حصل على شهادة الدكتوراه في الكيمياء الحيوية في عام 1973 من كلية كينجز كوليدج في لندن. أصدر كتابه (التطوّر: نظرية في أزمة) سنة 1985، الذي أثار الكثير من الجدل، وقد ذكر فيه أنّ نظرية التطوّر بالاصطفاء الطبيعي نظرية في أزمة علمية حقيقية. وُصف الكتاب من قبل العديد من البيولوجيين بأنّه نقَضَ أركان نظرية التطوّر وهدمها بأسس علمية[12] .

3- جوناثان ويلز Jonathan Wells : من مواليد 1942م، حصل على درجة الدكتوراه في البيولوجيا الجزيئية والخلوية في عام 1994. وأصبح عضواً في العديد من الجمعيات العلمية، ونُشرت له مقالات في المجلات الأكاديمية. من كتبه: الكتاب الشهير )أيقونات التطوّر( عام 2002، وأيضاً له كتاب (تصميم الحياة( مشاركة مع ديمبسكي[13] .

4- وليم ديمبسكي William Albert "Bill" Dembski: من مواليد 1960م، عالم في الرياضيات وفيلسوف أمريكي، ومن دعاة التصميم الذكي والمعارضين بشدّة لنظرية داروين من خلال الانتقاء الطبيعي، وهو صاحب كتاب (تصميم الحياة) مشاركة مع جوناثان ويلز، و(تصميم الاستدلال) 1998، و(التصميم الذكي: جسر بين العلم واللاهوت) 1999، و(التصميم هو الثورة) 2004، و(التصميم الذكي غير الخاضع للرقابة) 2010[14] .

5- جورج كوفييه Georges Cuvier: وُلد في 1769م، وهو فرنسي الجنسية، ويُعدّ من أهمّ أقطاب العلم في القرن الثامن عشر، ومن أهمّ من ترأّسوا أكاديمية العلوم، خاض جدلاً عنيفاً مع معاصره جيفري حول نظرية التطوّر والارتقاء، وكان كوفييه من ألدّ أعداء نظريات لامارك في التطوّر، ولم يؤمن بنظرية التطوّر العضوي، ولكنّه آمن بتكرار عملية الخلق بعد الكوارث الطبيعية[15] .

وغير هؤلاء كثير، ويدّعي البعض أنّ القول بالتطوّر يتراجع مع التقدّم العلمي، وأنّ أخطاءه صارت كثيرة جدًّا في السنوات الأخيرة مقارنة بذي قبل، وأنّ علماء مختصّين بالآلاف يرفضونه، وقد ظهرت أبحاث[16]  وكتب علمية تكشف عن عدم صحّته، وأنّ داروين كان مخطئاً بخصوص شجرة الحياة، والعلماء يؤكّدون أنّ شجرة التطوّر خاطئة ومضلِّلة، والاعتراضات التاريخية بدأت أشهر خطواتها علناً بقائمة معهد ديسكفري المكوّنة من 100 عالم ومتخصّص يرفضون الداروينية سنة 2001، حيث ذكروا أسماءهم ودرجاتهم العلمية في أمريكا[17] ، ثمّ تطوّرت الفكرة لإنشاء موقع متخصّص على الإنترنت لتسجيل هؤلاء المعترضين، سواءً كانوا من أمريكا أم خارجها، حيث يُذكر اسم كلّ عالم ودرجته العلمية، ويُذكر اعتراضه[18] ، ولما انتشر الأمر وصل لوسائل الإعلام من كندا قرابة 1000 عالم يعارضون الداروينية[19] ، ومع مرور الوقت وصل الرافضون للداروينية التطوّرية إلى ما يقرب من ثلاثة آلاف في أمريكا فقط[20] ، وهناك غيرهم لم يتمّ تسجيلهم، والأمر لا يختصّ بعلماء البيولوجيا فقط؛ لأنّ نظرية التطوّر تمسّ علم الإحصاء، والفيزياء، والكيمياء، وغيرها[21] .

6- نظرية داروين وأصل الإنسان: فإنّ ملخَّص نظرية داروين كما يستفاد من كلام الدكتور إسماعيل مظهر الذي كان من المناصرين لهذه النظرية، وأوّل من ترجم للعربية كتاب (أصل الأنواع) لداروين، هو أنّ الحياة أوّل ما ظهرت، ظهرت على شكل بروتوبلازم، وهو الأصل الذي تعود إليه كلّ صور الحياة من نبات وحيوان، وهو كائن أحادي الخليّة، وكلّ الأحياء على الإطلاق إمّا أن تتألّف من خليّة واحدة أو خلايا متعدّدة. ثمّ ظهرت ذوات الخلايا التي تطوّرت إلى الديدان، التي نشأت منها الرخويات كالمحار والحلازين والحبارات من الأسماك، ثمّ ظهرت الشوكيات كنجوم البحر وقنافذ البحر، ثمّ القشريات كالسراطين والإربيان، ثمّ بعد ذلك ظهرت الحشرات، ثمّ ظهرت صور جديدة من الحيوان لها حبل متين يمتد طول الجسم، وهذا أوّل مدرج من مدارج التطوّر نحو الفقار المؤلَّف من أجزاء عظمية، كلٌّ منها يسمّى فقارة، وظهرت الأسماك ذوات الهياكل العظمية الصلبة، ثمّ ظهرت أسماك متطوّرة، ثمّ نشأت البرمائيات كالضفادع، ومنها نشأت الزواحف كالعضايا والتماسيح والحيّات، ومن الزواحف نشأت الطيور، ثمّ نشأت الثدييات التي تضع بيضاً كالزواحف والطيور، ثمّ تطورت إلى ما أسماه الجلبانيات وهي الحيوانات ذوات الكيس كالكنغر، وهذه تطوّرت إلى ما أسماه الصعابير أو الليامير Lemurs، وهي نوع من القرود، ومنها نشأت القردة التي لا ذيل لها، والسعادين التي لها ذيول، ومن الليامير نشأ الإنسان[22] .

وهذا كلام غريب جدًّا، يبيِّن أن ما فهمه الدكتور إسماعيل مظهر من كلام داوين، هو أن أصل الإنسان قرد. 

ولا شكّ في أنّ داروين لم يصرّح بأنّ أصل الإنسان قرد، وإنّما ذكر أنّ الإنسان والقرد لهما أصل مشترك، إلا أنّ كلام الدكتور إسماعيل مظهر الذي لخّصناه آنفاً صريح في أنّه فهم أنّ داروين كان يرى أنّ الإنسان تطوّر من الليمور، ولكنّه ذكر أنّ العلماء لم يتبيّن لهم نوع الشعبة التي انحدر منها الإنسان من بين الشُّعَب العديدة التي تطوّر إليها الليمور. 

قال الدكتور إسماعيل مظهر:

أمّا من أيّة من الشُّعَب العديدة التي تحوّلت عن الصعابير قد نشأ الإنسان، فأمر لا يزال محوطاً بكثير من الشكّ عند العلماء، لكنّ الراجح أن سلفاً من الأسلاف البشرية - المشابهة للبشر - قد تطوّرت عنه شُعَب جاء منها الغُرِلَّى والمشمزى والأرطان والحبن، ثمّ الإنسان[23] .

فإذا صحّ ما كتبه الدكتور إسماعيل مظهر عن نظرية داروين فإنّه يصحّ حينئذ ما هو شائع عند النّاس من أنّ داروين يقول: «إنّ أصل الإنسان قرد»؛ لأنّه إذا كان أصل الإنسان ليموراً، والليمور نوع من القردة، فالنتيجة واضحة، إلا أنّ داروين يظهر أنّه كان يرى أنّ القرود هي التي لا ذيل لها، وأمّا ما له ذيل فلا يسمّى قرداً، وإنّما يسمّى باسم آخر كالشمبانزي، أو غيره.

أو أنّه ربّما كان يعتقد بذلك في دخيلة نفسه إلا أنّه لم يجرؤ على التصريح بذلك خوفاً من هياج الرأي العام عليه، فقال: «إنّ القرد والإنسان يرجعان إلى أصل واحد»، يعني به الليمور، الذي هو في الحقيقة نوع من القرود. 

وسواء أكان رأي داروين ما صرّح به داروين نفسه من أنّ الإنسان والقرد يرجعان إلى أصل واحد، أم كان رأيه ما فهمناه من كلام الدكتور إسماعيل مظهر من أنّ الإنسان أصله ليمور، وهو نوع من القرود، فإنّ هذا الرأي في النظرية هو الذي أثار جدلاً واسعاً حولها، وجعل كثيراً من الناس يرفضونها جملة وتفصيلاً، ويجعلونها موضعاً للسخرية والتندّر.

والإنصاف يقتضي قبول ما كان صحيحاً من هذه النظرية، وهو أنّ الكائنات الحيّة تتطوّر بنحوٍ من التطوّر، وهو التطوّر الذي يحصل في إطار النوع نفسه، لا النحو الذي ذكره داروين وأتباعه، وهو أنّ جميع الكائنات الحيّة تطوّرت من كائن حيّ أحادي الخليّة.

وأمّا وجود تقارب في الخلقة بين الإنسان والقرد فلا يستلزم انحدارهما من أصل واحد، خصوصاً مع وجود التفاوت الكبير بين هذين النوعين.

ولعلّ سبب هذا التقارب هو أنّ القرد ربّما يكون نسخة مشوَّهة (أو ممسوخة) من الإنسان العادي، كما تشير إلى ذلك بعض الآيات القرآنية التي ذكرت أنّ أقواماً من العصاة سخط الله عليهم فمسخهم إلى قردة، حيث قال سبحانه: ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَﱠ) [البقرة: ٦٥، ٦٦].

وقال تعالى: ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [الأعراف: ١٦٥، ١٦٦].

  وقال عزّ شأنه:  ( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) [المائدة: ٦٠].

وهذه الآيات تصرّح بأنّ بعض العصاة تحوّلوا إلى قرود، لا أنّ القرد تحوّل إلى إنسان، بمعنى أنّ الله تعالى القادر على كلّ شيء قد أحدث تغييراً خاصًّا في أجساد بعض العصاة، فحوّلهم إلى قردة.

وأشارت أحاديث مرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام إلى أنّ أولئك القردة ماتوا بعد ثلاثة أيام، ثمّ إنّ الله تعالى خلق القردة ابتداءً على صور تلك القرود الممسوخة لتكون عبرة للنّاس.

فقد ورد في التفسير المنسوب للإمام العسكري أنّ الذين مُسخوا قردة بقوا ثلاثة أيام، ثم بعث الله عزّ وجلّ [عليهم] مطراً وريحاً، فجرفهم إلى البحر، وما بقي مَسْخٌ بعد ثلاثة أيام، وإنّما الذين ترون من هذه المصوَّرات بصُوَرها فإنّما هي أشباهها، لا هي بأعيانها ولا من نسلها[24] .

ومع احتمال صحّة هذا التفسير الديني للتشابه الجيني الموجود بين الإنسان والقرد، فإنّ الباحث لا يستطيع الجزم بأنّ التشابه الجيني بين الإنسان والقرد يدلّ على أنّ أصلهما حيوان آخر انشعب عنه كلّ واحد منهما، خصوصاً أنّ هذه الحلقة لا تزال مفقودة؛ لأنّه لحدّ الآن لم يتمّ العثور على حيوان متوسّط الخِلْقة بين القرد والإنسان يمكن أن يتفرّع عنه كلّ واحد منهما.

بل حتى لو وُجد مستقبلاً في الأحافير بعض المخلوقات المشابهة للإنسان فإنّ ذلك لا يدلّ على أنّ الإنسان تطوّر من تلك المخلوقات؛ لاحتمال صحّة ما ورد في بعض الأحاديث من أنّ الله تعالى خلق في الأرض خلقاً يشبه الإنسان، وهو النسناس، فانقرض، ثمّ خلق الإنسان بعد ذلك، فقد ورد في حديث طويل مرويّ عن أمير المؤمنين وصف بداية ما خلقه الله تعالى من الملائكة والجن والنسناس، حيث قال: ثمّ خلق خلقاً دونهم، لهم أبدان وأرواح بغير أجنحة، يأكلون ويشربون (نسناس) أشباه خلقهم، وليسوا بإنس، وأسكنهم أوساط الأرض على ظهر الأرض مع الجنّ، يقدّسون الله الليل والنهار لا يفترون... [25] .

وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان:

الزابج: ... هي جزيرة في أقصى بلاد الهند وراء بحر هركند في حدود الصين، وقيل: هي بلاد الزنج، وبها سكان شبه الآدميين، إلا أنّ أخلاقهم بالوحش أشبه، وبها نسناس لهم أجنحة كأجنحة الخفافيش، وقد ذكر عنها عجائب دوَّنها الناس في كتبهم... [26] .

فإن صحَّ ذلك فلا يمكن أن يُستنتَج من وجود حفريات لمخلوقات شبيهة بالإنسان أنّها مخلوقات تطوَّر الإنسان منها؛ لاحتمال كونها مخلوقات قد خُلقت ابتداءً على صورة مشابهة للإنسان، والله العالم.

________________________________

[1]  Charles Darwin,The Autobiography of Charles Darwin1809-1882 ed. Nora Barlow (London: Collins, 1958), 92-3. (عن كتاب كيف بدأ الخلق: 176)

[2]  كيف بدأ الخلق: 176 (بتصرّف طفيف منّا).

[3]  رحلة عقل (عن كتاب كيف بدأ الخلق: 163).

[4]  قصة الإنسان: 8.

[5]  نفس المصدر: 9.

[6]  أصل الأنواع: 450، 452، 500، 628، 750، 757، ترجمة إسماعيل مظهر. (عن كتاب الإنسان بين الخلق والتطور: 105-106).

[7]  أصل الأنواع: 523، ترجمة مجدي محمود المليجي.

[8]  كيف بدأ الخلق: 177.

[9]  https://en.wikipedia.org/wiki/Cambrian_explosion 

        راجع: http://biologos.org/common-questions/scientific-evidence/

http://burgess-shale.rom.on.ca/en/science/origin/04-cambrian-explosion.php

[10]  كيف بدأ الخلق: 193-195.

[11]  https://en.wikipedia.org/wiki/David_Berlinski.

     http://www.discovery.org/p/51

[12] https://en.wikipedia.org/wiki/Michael_Denton .

      http://www.discovery.org/p/521

[13] https://en.wikipedia.org/wiki/Jonathan_Wells_ (intelligent_design_advocate)

      http://www.discovery.org/p/41

[14] https://en.wikipedia.org/wiki/William_A._Dembski .

http://www.discovery.org/p/32

[15]  https://en.wikipedia.org/wiki/Georges_Cuvier.

      http://www.ucmp.berkeley.edu/history/cuvier.html

[16]      https://dennisdjones.wordpress.com/2011/02/24/id-peer-reviewed-research -published-in-science-journals/

[17]  http://www.reviewevolution.com/press/pressRelease_100Scientists.php.

[18] http://www.discovery.org/scripts/viewDB/filesDB-download.php ?command =do  wnload&id=660.

[19]   http://canadafreepress.com/article/almost-a-thousand-major-scientists-dissent-from-darwin.

[20]   http://www.rae.org/pdf/darwinskeptics.pdf.

[21]  موسوعة ويكيبيديا، مادة: نقد التطور.

[22]  أصل الأنواع 1/39-44.

[23]  أصل الأنواع 1/44.

[24]  تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السلام: 270.

[25]  قصص الأنبياء: 36.

[26]  معجم البلدان 3/125.