اعتقاد أصحاب الأئمة بعصمة الأئمة عليهم السلام

 

وصلني عبر موقعي ثلاثة أسئلة من أحد القراء الكرام، وأنا سأذكر كل سؤال وأجيب عليه؛ لأن جميع هذه الأسئلة الثلاثة تتعلق بموضوع اعتقاد الأئمة وأصحابهم بالعصمة التي يرى الشيعة أنها من ضروريات المذهب.

قال السائل الكريم:

السلام عليكم شيخنا الكريم، لدي ثلاثة أسئلة حول موضوع العصمة:

السؤال الأول: هل صحيح أن أصحاب الأئمة عليهم السلام لم يكونوا يعتقدون بعصمتهم عليهم السلام؟ لأن البعض يطرح هذه الإشكالية، ويقول: لو كانت العصمة ضرورة، ومنكرها يخرج من التشيع، لما أنكرها أصحاب الأئمة عليهم السلام، فأصحاب الأئمة عليهم السلام لم يتفقوا على القول بعصمتهم؟ واستدل لذلك بما ذكره الكشي في ترجمة عبد الله بن يعفور أن عبد الله بن يعفور جرى بينه وبين المعلى بن خنيس حوار حول الأئمة عليهم السلام، فقال عبد الله بن يعفور: إن الأئمة عليهم السلام علماء أبرار أتقياء. ولم يذكر العصمة، بينما قال المعلى: إن الأئمة أنبياء. فكما تلاحظون لم يقل عبد الله بن يعفور: إن الأئمة عليهم السلام معصومون، بل علماء. فهل إنه لا يعتقد بعصمتهم لقوله: إنهم علماء أبرار؟ 

الأمر الآخر أن الأئمة عليهم السلام إذا كانوا معصومين فلماذا لم يشر الامام الصادق عليه السلام إلى ذلك، واكتفى بقبول كلام عبد الله بن أبي يعفور، علماً أن الرواية صحيحة السند على مباني السيد الخوئي قدس سره، فقد رجعت الى ترجمة المعلّى فوجدت هذه الرواية مصححة عند السيد قدس سره.

والجواب: 1- أن الشيعة الإمامية استدلوا على عصمة الأئمة عليهم السلام بالكتاب العزيز، وبالسنة المطهرة، وبالعقل، وأدلتهم على عصمة الأئمة عليهم السلام تامة صحيحة، وهي مذكورة في كتبهم بالتفصيل، ومبينة بأتم بيان، وليس هذا موضع ذكرها، ومن أراد الاطلاع عليها فليراجعها في مظانها.

ومما لا شك فيه أن هذه الأدلة هي التي يُرجع إليها في الاعتقاد بالعصمة أو عدمها، وهي كافية في الدلالة ووافية بالمطلوب، ولا حاجة للرجوع إلى غيرها مما لا يصح الرجوع إليه.

وأما عدم اعتقاد بعض أصحاب الأئمة بعصمتهم عليهم السلام فهذا لا يصلح دليلاً في مقابل الكتاب والسنة والعقل، وإلا لصحَّ لنا أن ننفي عصمة رسول الله صلى الله عليه وآله؛ لأن جملة من أصحابه كانوا لا يعتقدون بعصمته كما هو ظاهر معلوم من سيرتهم معه صلى الله عليه وآله، حيث كانوا يخالفونه ويعارضونه، ولا يعتقدون بأنه مصيب في جميع أفعاله وأقواله، وكانوا يقدّمون آراءهم على قوله، وهناك روايات متعددة تدل على ذلك لا يناقش في صحتها أو يشكك فيها، وهذا دليل واضح على أنهم لا يرون عصمته صلى الله عليه وآله، فهل يحق لنا أن ننفي عصمته صلى الله عليه وآله لأجل ذلك؟!

ويشبه الاستدلال على نفي عصمة الأئمة عليهم السلام بعدم اعتقاد بعض أصحابهم عليهم السلام بها، إنكار خلافة أمير المؤمنين التي دلّ عليها الكتاب والسنة المتواترة والعقل بإنكار بعض الصحابة لها، مع ثبوت عدم حجية أقوال الصحابة وأفعالهم، فهذا الاستدلالات ونحوها في الحقيقة ترجع إلى رد الأدلة الصحيحة بأدلة غير صحيحة.

مضافاً إلى ذلك فإن أصحاب الأئمة عليهم السلام لم يكونوا معصومين، بل كانت لبعضهم أخطاء في مسائل كثيرة مذكورة في كتب الروايات وفي بعض الكتب الرجالية كرجال الكشي وغيره، ولو فرض أن ابن أبي يعفور أو غيره كان يعتقد بعدم عصمة الأئمة عليهم السلام فهذا خطأ منه، لا يدل على أن ما ذهب إليه هو الحق، كما لا يدل على أن غيره من أصحاب الأئمة عليهم السلام كانوا يوافقونه في هذا الرأي.

نعم، لو ثبت بدليل صحيح أن جميع أصحاب الأئمة عليهم السلام من زمان أمير المؤمنين عليه السلام، إلى زمان الإمام الحسن العسكري عليه السلام كانوا لا يعتقدون بالعصمة، فلا شك في أن ذلك يثبت أن الأئمة الأطهار عليهم السلام لا يقولون بها، وإلا لما أطبق أصحابهم على نفيها عنهم، وهذا لا يمكن إثباته بأي نحو، بل قامت الأدلة على عدم صحّته، وعلى من يدّعيه أن يثبته بالروايات الصحيحة، ودون إثباته خرط القتاد.    

وعليه، فلو سلمنا أن بعض أصحاب الأئمة عليهم السلام كانوا لا يعتقدون بعصمة الأئمة عليهم السلام فهذا لا قيمة له، ولا يمكن ردّ الأدلة الصحيحة لأجله.

2- أن رواية عبد الله بن أبي يعفور التي رواها الكشي: 221، هي:

محمد بن الحسن البراثي، وعثمان، قالا: حدثنا محمد بن يزداد عن محمد بن الحسين عن الحجال، عن أبي مالك الحضرمي، عن أبي العباس البقباق، قال: تذاكر ابن أبي يعفور ومعلى بن خنيس، فقال ابن أبي يعفور: الأوصياء علماء أبرار أتقياء. وقال ابن خنيس: الأوصياء أنبياء. قال: فدخلا على أبي عبد الله عليه السلام، قال: فلما استقر مجلسهما، قال: فبدأهما أبو عبد الله عليه السلام فقال: يا عبد الله ابرأ ممن قال: إنا أنبياء.

وهذه الرواية ضعيفة السند، فإن من رواتها محمد بن الحسن البراثي، أو البراني، أو البرناني، وهو لم تثبت وثاقته في كتب الرجال.

وأنا لم يتضح لي لماذا صحح السيد الخوئي قدس سره هذه الرواية في ترجمة المعلى بن خنيس من معجمه 18/246، مع أنها على مبانيه ينبغي أن تكون ضعيفة السند، فإنه قدس سره ذكر هذا الراوي في معجم رجال الحديث 15/200، 201 ولم يوثقه، فلا أدري لم صحَّح قدس سره هذه الرواية.

وبعد الغض عن سند الرواية، وتسليم صحتها جدلاً، فإن الرواية لا دلالة فيها على أن ابن أبي يعفور كان لا يعتقد بعصمة الأئمة عليهم السلام، ووصفهم عليهم السلام بأنهم علماء أبرار أتقياء لا يستلزم نفي عصمتهم عليهم السلام، لأن إثبات بعض الصفات لهم عليهم السلام لا يدل على نفي ما عداها عنهم.

كما أن الرواية لا دلالة فيها على أن الإمام الصادق عليه السلام أقرّ ابن أبي يعفور على نفيه عصمة الأئمة عليهم السلام، وإنما دلّ الحديث على أن عدم إنكار الإمام عليه السلام قوله، يدل على أن ما قاله صحيح.

3- أن الخلاف بين عبد الله بن أبي يعفور والمعلى بن خنيس هو أن الأئمة عليهم السلام هل هم علماء أبرار أتقياء، أو أنهم أنبياء؟ والإمام عليه السلام بيَّن أنهم عليهم السلام ليسوا بأنبياء، وأما الصفات الأخرى الثابتة لهم عليهم السلام كالعصمة وغيرها فهي ليست محلاً للخلاف بين ابن أبي يعفور وبين ابن خنيس، ولهذا فإن الإمام عليه السلام لم يتعرض لها بنفي أو إثبات.

ومما قلناه يتبين الجواب عن قول السائل: «إن الأئمة عليهم السلام إذا كانوا معصومين فلماذا لم يشر الامام الصادق عليه السلام إلى ذلك»، فإن الإمام عليه السلام لم يكن في صدد بيان جميع صفات الأئمة عليهم السلام من العصمة والنص عليهم والتطهير لهم من الرجس وغيره ما ينفر الناس عنهم، ونحو ذلك مما هو مبين في رواياتهم عليهم السلام.

وأما قول السائل: «فكما تلاحظون لم يقل عبد الله بن يعفور: «إن الأئمة عليهم السلام معصومون»، بل علماء، فهل كان لا يعتقد بعصمتهم لقوله: إنهم علماء أبرار؟

فجوابه: أن ابن أبي يعفور لم يكن في صدد حصر جميع صفات الأئمة عليهم السلام في كونهم علماء أبرار أتقياء فقط، حتى يمكن القول بأن حصره يدل على نفي ما عدا هذه الصفات التي من ضمنها العصمة، فإن كلام ابن أبي يعفور لا دلالة فيه على الحصر الحقيقي، وإنما ذكر هذه الصفات للتدليل على أنهم عليهم السلام لم يكونوا أنبياء كما يزعم ابن خنيس، وإلا فإن ابن أبي يعفور يعتقد كما يعتقد غيره من الشيعة بأنهم عليهم السلام مطهرون من الرجس، وأنهم منصوص عليهم، وأنهم عُبَّاد زُهَّاد حلماء كرماء، وغير ذلك مما هو متسالم عليه عند أصحاب الأئمة عليهم السلام.        

 

السؤال الثاني: قال لي بعضهم في حل الإشكال: إنما اختار الامام الصادق عليه السلام رأي عبد الله بن أبي يعفور؛ لأن كلام المعلى غير صحيح؛ لأن أهل البيت عليهم السلام ليسوا بأنبياء، فإثبات أنهم علماء لا ينفي عصمتهم؛ لأن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، فالإمام عليه السلام إنما تمسك بقول ابن ابي يعفور لأن كلام المعلى غير صحيح. فما مدى صحة هذا الكلام؟

علماً أن البعض كالسيد بحر العلوم في الفوائد الرجالية ينقل عن الشهيد الثاني أن أصحاب الأئمة عليهم السلام لم يكونوا يعتقدون عصمتهم، فما ردكم على ما قاله الشهيد الثاني قدس سره؟

والجواب: أنا أوضحنا فيما تقدم أن الإمام الصادق عليه السلام أنكر قول المعلى بن خنيس أنهم عليهم السلام أنبياء، والإمام عليه السلام لم ينكر على ابن أبي يعفور ما قال، لأن ابن أبي يعفور لم يكن في صدد حصر صفات الأئمة عليهم السلام في كونهم علماء أبرار أتقياء فقط، ليكون كلامه دالاً على نفي العصمة وغيرها مما هو ثابت لهم عليهم السلام، فما قاله المجيب عن سؤالك من أن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه صحيح.

وأما قول السائل: «علماً أن البعض كالسيد بحر العلوم في الفوائد الرجالية ينقل عن الشهيد الثاني أن أصحاب الأئمة عليهم السلام لم يكونوا يعتقدون عصمتهم، فما ردكم على ما قاله الشهيد الثاني قدس سره؟» فهو يشير إلى ما ذكره السيد بحر العلوم قدس سره حيث قال:

وأما إسناد القول بالرأي إلى الأئمة عليهم السلام فلا يمتنع أن يكون كذلك في العصر المتقدّم، وقد حكى جدي العلامة قدس سره في كتاب الايمان والكفر عن الشهيد الثاني طاب ثراه: أنه احتمل الاكتفاء في الإيمان بالتصديق بإمامة الأئمة عليهم السلام، والاعتقاد بفرض طاعتهم، وإن خلا عن التصديق بالعصمة عن الخطأ.

وادَّعى: أنّ ذلك هو الذي يظهر من جُلّ رواتهم وشيعتهم، فإنهم كانوا يعتقدون أنهم عليهم السلام علماء أبرار، افترض الله طاعتهم، مع عدم اعتقادهم العصمة فيهم، وأنهم عليهم السلام مع ذلك كانوا يحكمون بإيمانهم وعدالتهم. قال: «وفي كتاب أبي عمرو الكشي جملة من ذلك».

وكلامه رحمه الله وإن كان مطلقاً، لكن يجب تنزيله على تلك الأعصار التي يُحتمل فيها ذاك، دون ما بعدها من الأزمنة، فإن الأمر قد بلغ فيها حد الضرورة قطعاً. (الفوائد الرجالية 3/219).

ويمكن الجواب على ذلك بأمرين:

الأمر الأول: أن كلام الشهيد الثاني قدس سره استظهار ظني من بعض الروايات التي يتراءى منها أن بعض الرواة كان لا يعتقد بعصمة الأئمة عليهم السلام، فظن الشهيد الثاني قدس سره أن باقي الرواة كذلك؛ فإنه من غير الممكن معرفة أحوال جل الرواة من هذه الناحية، لأنّ الأخبار لم تتكفل ببيان ذلك، خصوصاً إذا علمنا أن الرواة يزيدون على عشرة آلاف راوٍ، ومن المقطوع به جزماً أن الشهيد الثاني قدس سره لم يطلع على ما يعتقده العشرات من أولئك الرواة في مسألة العصمة فضلاً عن جلّهم كما نقل عنه؛ لأن ذلك لم يُدوَّن عنهم، وما ذُكر في رجال الكشي عن بعض الرواة لا يمكن أن يستفاد منه أن جلّ الرواة أو أن غالب الشيعة كانوا لا يعتقدون بالعصمة، فكيف يمكن الجزم بمثل ذلك؟

والذي يظهر من كلمات السيد بحر العلوم قدس سره أنه يشكِّك في صحة ما قاله الشهيد الثاني قدس سره، بل كان يميل إلى خطئه في ما قال، كما هو واضح من قوله: «وادَّعى أنّ ذلك هو الذي يظهر من جُلّ رواتهم وشيعتهم»، فإنه قدس سره عدّ قوله هذا مجرد ادعاء منه، مشيراً إلى أنه لم يقم على ذلك دليلاً صحيحاً.

وكذا قوله: «وكلامه رحمه الله وإن كان مطلقاً، لكن يجب تنزيله على تلك الأعصار التي يُحتمل فيها ذاك، دون ما بعدها من الأزمنة»، فإنه يدل على أن كلام الشهيد الثاني غير صحيح على إطلاقه؛ لأن الشيعة والرواة في عصور أكثر الأئمة كانوا يعتقدون بعصمتهم عليهم السلام.

إلا أن السيد بحر العلوم قدس سره وجّه كلام الشهيد الثاني بأنه يجب حمله على الأعصار التي يحتمل فيها ذلك، كزمان أمير المؤمنين والحسنين عليهما السلام، حيث كان الشيعة قلائل جداً، وكانت الفتن كثيرة، والجهل متفشيًّا، دون ما بعده من الأزمنة التي كثر فيها الشيعة، وزادت عنايتهم بأخذ العلوم من أئمة أهل البيت عليهم السلام كعصر الصادقين عليهما السلام وما بعدهما.  

الأمر الثاني: أن كلام الشهيد الثاني قدس سره في كتاب الإيمان والكفر إنما هو في بيان ما هو ضروري في تحقق الإيمان، الذي من دونه لا يكون الرجل مؤمناً، فذكر أن عدم القول بالعصمة جهلاً لا يضر بالإيمان، واستدل على ذلك بأن (كثيراً من) الشيعة والرواة الذين حكم الأئمة الأطهار عليهم السلام بأنهم من شيعتهم كانوا لا يرون عصمة الأئمة عليهم السلام، لا بمعنى أن الدليل قام عندهم على عدم عصمتهم عليهم السلام، وإنما كانوا يجهلون هذه المسألة، فلا يعلمون بأن الأئمة عليهم السلام معصومون أو غير معصومين، وربما لم يخطر على بالهم مسألة العصمة إثباتاً أو نفياً، والشهيد الثاني قدس سره ذكر أن هؤلاء شيعة مؤمنون، وجهلهم بالعصمة لا يضر بإيمانهم.

والشهيد الثاني قدس سره في كتاب حقائق الإيمان في باب (التصديق بإمامة الاثني عشر صلوات الله عليهم أجمعين) ذكر جملة من أصول الإيمان التي هي من ضروريات مذهبهم، مثل وجوب التصديق بكونهم أئمة يهدون بالحق، وبوجوب الانقياد إليهم في أوامرهم ونواهيهم، ليتحقق الغرض من الحكم بإمامتهم عليهم السلام، وغير ذلك مما ذكره.

ثم تساءل قائلاً: فهل يعتبر في تحقق الإيمان، أم يكفي اعتقاد إمامتهم ووجوب طاعتهم في الجملة؟ فيه الوجهان السابقان في النبوة، ويمكن ترجيح الأول، بأن الذي دلَّ على ثبوت إمامتهم دلَّ على جميع ما ذكرناه خصوصاً العصمة، لثبوتها بالعقل والنقل. وليس بعيداً الاكتفاء بالأخير، على ما يظهر من حال رواتهم ومعاصريهم من شيعتهم في أحاديثهم عليهم السلام، فإن كثيراً منهم ما كانوا يعتقدون عصمتهم لخفائها عليهم، بل كانوا يعتقدون أنهم علماء أبرار، يعرف ذلك من تتبع سيرهم وأحاديثهم، وفي كتاب أبي عمرو الكشي رحمه الله جملة مطلعة على ذلك، مع أن المعلوم من سيرتهم عليهم السلام مع هؤلاء أنهم كانوا حاكمين بإيمانهم بل عدالتهم. (حقائق الإيمان: 149).

وكما هو واضح من كلامه قدس سره أنه ذكر وجه ترجيح كون العصمة من أصول الإيمان، ووجه ترجيح كونها ليست كذلك، وقوله في ترجيح القول الثاني: «وليس بعيداً الاكتفاء بالأخير» لا يدل على اختياره هذا الوجه؛ لأن هذه العبارة تدل على أن من ذهب إلى ذلك فإن عنده مستنداً لقوله، وهو أن كثيراً من الرواة والمعاصرين كانوا لا يقولون بعصمتهم عليهم السلام، لخفائها عليهم.               

إذن، ما دلّ عليه كلام الشهيد الثاني قدس سره في هذه المسألة عدة أمور:

1- أن عصمة الأئمة عليهم السلام مما يجب الاعتقاد به، لكن وقع النزاع في أن تحقق الإيمان هل هو متوقف على القول بها أم لا.

2- أن من ذهب إلى القول بأن الاعتقاد بعصمة الأئمة عليهم السلام ليس من أصول الإيمان، إنما يريد أن من لم يقل بعصمة الأئمة عليهم السلام لخفائها عليه وجهله بها لا يحكم بعدم إيمانه.

3- أن ما أشرنا إليه من كلام الشهيد الثاني قدس سره لا دلالة فيه على أنه كان يذهب إلى أن (أكثر الرواة والشيعة) في زمان الأئمة عليهم السلام كانوا لا يقولون بالعصمة كما نسب إليه قدس سره، وإنما ذكر دليل من قال: «إن عدم القول بالعصمة عن جهل لا يتنافى مع الإيمان»، وهو أن كثيراً من الرواة والشيعة كانوا لا يعلمون بالعصمة، ومع ذلك فإن الأئمة الأطهار عليهم السلام كانوا يحكمون عليهم بأنهم من الشيعة.        

السؤال الثالث: هل توجد شواهد تدل على اعتقاد أصحاب الأئمة بعصمتهم حتى يرتفع الإشكال. أرجو تزويدنا ببعضها إن أمكن، لأن البعض يريد أن يضرب العصمة من هذه الناحية، فيقول: إن العصمة لم تكن ضرورة وذات أهمية عندهم، وإن التشيع تتطور عقائده، فالعصمة لم تكن في عهد الأئمة، وإنما نشأت بعدهم علي يد المفيد والصدوق وغيرهم، فلا الأئمة كانوا يرون عصمتهم، ولا أصحابهم يعتقدون لهم العصمة.

والجواب: أن الروايات الصحيحة دلت بوضوح على أن الأئمة الأطهار عليهم السلام كانوا يصرّحون بأنهم معصومون، وهي كثيرة، منها: 

1- ما رواه الشيخ الكليني قدس سره في الكافي 1/269 بسند معتبر عن سدير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن قوماً يزعمون أنكم آلهة، يتلون بذلك علينا قرآنا: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله). فقال: يا سدير، سمعي وبصري وبشري ولحمي ودمي وشعري من هؤلاء براء، وبرئ الله منهم، ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي، والله لا يجمعني الله وإياهم يوم القيامة إلا وهو ساخط عليهم، قال: قلت: وعندنا قوم يزعمون أنكم رسل، يقرؤون علينا بذلك قرآناً: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم). فقال: يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء براء، وبرئ الله منهم ورسوله، ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي، والله لا يجمعني الله وإياهم يوم القيامة إلا وهو ساخط عليهم، قال: قلت: فما أنتم؟ قال: نحن خُزَّان علم الله، نحن تراجمة أمر الله، نحن قوم معصومون، أمر الله تبارك وتعالى بطاعتنا، ونهى عن معصيتنا، نحن الحجة البالغة على من دون السماء و فوق الأرض.

قال الشيخ المجلسي قدس سره في مرآة العقول 3/159: حسن.

2- ما رواه الشيخ الكليني في الكافي 1/203 بسنده عن إسحاق بن غالب، عن أبي عبد الله عليه السلام في خطبة له يذكر فيها حال الأئمة عليهم السلام وصفاتهم: ...  فالإمام هو المنتجب المرتضى، والهادي المنتجى، والقائم المترجى، اصطفاه الله بذلك، واصطنعه على عينه في الذر حين ذرأه، وفي البرية حين برأه، ظلاً قبل خلق نسمة عن يمين عرشه، محبوًّا بالحكمة في علم الغيب عنده، اختاره بعلمه، وانتجبه لطهره، بقية من آدم عليه السلام، وخيرة من ذرية نوح، ومصطفى من آل إبراهيم، وسلالة من إسماعيل، وصفوة من عترة محمد صلى الله عليه وآله، لم يزل مرعيًّا بعين الله، يحفظه ويكلؤه بستره، مطروداً عنه حبائل إبليس وجنوده، مدفوعاً عنه وقوب الغواسق ونفوث كل فاسق، مصروفاً عنه قوارف السوء، مبرَّءاً من العاهات، محجوباً عن الآفات، معصوماً من الزلات، مصوناً عن الفواحش كلها، معروفاً بالحلم والبر في يفاعه، منسوباً إلى العفاف والعلم والفضل عند انتهائه، مسنداً إليه أمر والده، صامتاً عن المنطق في حياته.

صحّحه الشيخ المجلسي قدس سره في مرآة العقول 2/400، وميرزا جواد التبريزي قدس سره في النصوص الصحيحة: 10، والشيخ هادي النجفي في موسوعة أحاديث أهل البيت 4/366.

3- ما رواه الشيخ الصدوق قدس سره في كتابه (من لا يحضره الفقيه 2/611) في الزيارة المعروفة بالزيارة الجامعة، التي ورد فيها قول الإمام الهادي عليه السلام: وأشهد أنكم الأئمة الراشدون، المهديون، المعصومون، المكرمون، المقربون، المتقون، الصادقون، المصطفون، المطيعون لله، القوامون بأمره، العاملون بإرادته، الفائزون بكرامته، اصطفاكم بعلمه، وارتضاكم لغيبه، واختاركم لسرِّه، واجتباكم بقدرته، وأعزكم بهداه، وخصكم ببرهانه، وانتجبكم بنوره، وأيدكم بروحه، ورضيكم خلفاء في أرضه، وحججاً على بريّته، وأنصاراً لدينه، وحفظة لسرّه، وخزنة لعلمه، ومستودعاً لحكمته، وتراجمة لوحيه، وأركاناً لتوحيده، وشهداء على خلقه، وأعلاماً لعباده، ومناراً في بلاده، وأدلّاء على صراطه، عصمكم الله من الزلل، وآمنكم من الفتن، وطهّركم من الدنس، وأذهب عنكم الرجس [أهل البيت]، وطهّركم تطهيراً.

قال الشيخ الصدوق قدس سره في نفس المصدر 3/598: وقد أخرجت في كتاب الزيارات، وفي كتاب مقتل الحسين عليه السلام أنواعاً من الزيارات، واخترت هذه لهذا الكتاب لأنها أصحّ الزيارات عندي من طريق الرواية، وفيها بلاغ وكفاية.

وقال الشيخ المجلسي قدس سره في  بحار الأنوار 102/144: إنما بسطت الكلام في شرح تلك الزيارة قليلاً وإن لم أستوف حقها حذراً من الإطالة لأنها أصح الزيارات سنداً، وأعمها مورداً، وأفصحها لفظاً، وأبلغها معنىً، وأعلاها شأناً.

4- ما رواه الشيخ الكليني قدس سره في الكافي بسند معتبر عن سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه، قال: إن الله طهَّرنا وعصمنا، وجعلنا شهداء على خلقه، وحجته في أرضه، وجعلنا مع القرآن، وجعل القران معنا، لا نفارقه ولا يفارقنا.

قال الشيخ المجلسي قدس سره في مرآة العقول 2/343: مختلف فيه، وحسن عندي.

5- ما رواه الشيخ الصدوق قدس سره بسنده عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهرون معصومون. (عيون أخبار الرضا عليه السلام 1/65، كمال الدين وتمام النعمة: 280).

قال الشيخ هادي النجفي: الرواية معتبرة الإسناد. (موسوعة أحاديث أهل البيت عليهم السلام 7/183).

والروايات في ذلك كثيرة، وقد اقتصرنا على ذكر بعض منها، وعليك بالاطلاع على الروايات التي ذكرها الشيخ المجلسي قدس سره في كتاب البحار 25/191، فإنه ذكر حوالي عشرين رواية دالة على العصمة، وأحال بعد ذلك على ما ذكره في تحقيق العصمة وإثباتها وما يتعلق بها في باب عصمة النبي صلى الله عليه وآله، فراجعه إن شئت.

وأما الروايات التي تدل على أن جملة من أصحاب الأئمة الأطهار عليهم السلام كانوا يرون عصمتهم عليهم السلام فمنها: ما رواه الشيخ الصدوق قدس سره بسند صحيح عن محمد بن أبي عمير، قال: ما سمعت ولا استفدت من هشام بن الحكم في طول صحبتي له شيئا أحسن من هذا الكلام في صفة عصمة الامام، فإني سألته يوماً عن الامام أهو معصوم؟ فقال: نعم. فقلت: فما صفة العصمة فيه؟ وبأي شيء تعرف؟ فقال: إن جميع الذنوب لها أربعة أوجه ولا خامس لها: الحرص، والحسد، والغضب، والشهوة. فهذه منفية عنه، لا يجوز أن يكون حريصاً على هذه الدنيا وهي تحت خاتمه؛ لأنه خازن المسلمين، فعلى ماذا يحرص؟ ولا يجوز أن يكون حسوداً؛ لأن الإنسان إنما يحسد من فوقه، وليس فوقه أحد، فكيف يحسد من هو دونه؟ ولا يجوز أن يغضب لشيء من أمور الدنيا، إلا أن يكون غضبه لله عز وجل، فإن الله عز وجل قد فرض عليه إقامة الحدود، وأن لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا رأفة في دينه، حتى يقيم حدود الله عز وجل، ولا يجوز له أن يتبع الشهوات، ويؤثر الدنيا على الآخرة؛ لأن الله عز وجل حبب إليه الآخرة كما حبب إلينا الدنيا، فهو ينظر إلى الآخرة كما ننظر إلى الدنيا، فهل رأيت أحداً ترك وجهاً حسناً لوجه قبيح، وطعاماً طيباً لطعام مر، وثوباً ليِّناً لثوب خشن، ونعمةً دائمةً باقيةً لدنيا زائلة فانية؟ (الخصال، علل الشرائع: 79، معاني الأخبار: 44، أمالي الصدوق: 375).

قلت: هذه الرواية تدل بوضوح على أن هشام بن الحكم المعاصر للإمام الصادق عليه السلام كان يقول بالعصمة، ويستدل عليها.

وسؤال ابن أبي عمير عن عصمة الإمام عليه السلام ظاهر في أنه لم يكن سؤاله عن أن الإمام عليه السلام معصوم أم لا، ولهذا لم يكتف بهذا السؤال، وإنما سأل هشاماً عن صفة العصمة فيه عليه السلام، وعن الشيء الذي به تُعرف العصمة.

واعتبار ابن أبي عمير أن ما سمعه من هشام بن الحكم في العصمة هو أحسن ما سمعه واستفاده من هشام في طول صحبته له فيه دلالة واضحة على أن الاعتقاد بعصمة الأئمة عليهم السلام كان معروفاً عند أصحاب الأئمة عليهم السلام، ولهذا حدّث ابن أبي عمير بذلك، واعتبره من الأمور المفيدة جدًّا.   

ومنها: ما رواه الشيخ الصدوق في معاني الأخبار: 383 بسند صحيح عن علي بن رئاب، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)، أرأيت ما أصاب عليًّا وأهل بيته هو بما كسبت أيديهم، وهم أهل بيت طهارة معصومون؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يتوب إلى الله عزّ وجل ويستغفره في كل يوم وليلة مائة مرة من غير ذنب، إن الله عزّ وجل يخصّ أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب.

قال الشيخ هادي النجفي في موسوعة أحاديث أهل البيت 2/271: صحيحة الإسناد.

والحديث يدل بوضوح على أن علي بن رئاب الذي هو من أصحاب الإمام جعفر الصادق عليه السلام كان يعتقد بعصمة الأئمة عليهم السلام، بل كان يعتقد أنها من المسلمات، لكنه توهم أن القول بالعصمة يتنافى مع الآية الكريمة، ولهذا سأل الإمام عليه السلام لرفع ما توهمه من التنافي.

ومنها: ما رواه الكشي قدس سره بسنده عن عبد الله بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: والله لو فلقت رمانة بنصفين، فقلت: هذا حرام، وهذا حلال، لشهدت أن الذي قلت: «حلال» حلال، وأن الذي قلت: «حرام» حرام. فقال: رحمك الله، رحمك الله. (اختيار معرفة الرجال: 323).

وبسنده عن حمزة بن الطيار، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أخذ أبو عبد الله عليه السلام بيدي، ثم عدَّ الأئمة عليهم السلام إماماً إماماً، يحسبهم بيده، حتى انتهى إلى أبي جعفر عليه السلام، فكف. فقلت: جعلني الله فداك، لو فلقت رمانة، فأحللت بعضها، وحرَّمت بعضها، لشهدت أن ما حرمت حرام، وما أحللت حلال، فقال: فحسبك أن تقول بقوله، وما أنا إلا مثلهم، لي مالهم وعليَّ ما عليهم، فإن أردت أن تجيء يوم القيامة مع الذين قال الله تعالى: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) فقل بقوله. (اختيار معرفة الرجال: 415).

وهاتان الروايتان تدلان بوضوح على أن أبن أبي يعفور وحمزة بن الطيار كانا يعتقدان بعصمة الإمام الصادق عليه السلام؛ لأن ذلك هو لازم قولهما، فإن الرمانة الواحدة لها حكم واحد، إما أن تكون كلها حلالاً، أو تكون كلها حراماً، إلا أن ابن أبي يعفور وابن الطيار لما كانا يعتقدان بعصمة الإمام الصادق عليه السلام، وأنه لا يخطئ، وأن كل ما يقوله حق، فإنه لو قال لهما: نصف هذه الرمانة حلال، ونصفها الآخر حرام، فإنهما يحكمان بما حكم به الإمام عليه السلام؛ لأنه معصوم لا يخطئ.   

وبعد مزيد من النظر في رجال الكشي المطبوع وهو اختيار معرفة الرجال، فإني لم أجد رواية تدل بوضوح على ما قاله الشهيد الثاني قدس سره، ولعله قدس سره يشير إلى أمثال سفيان بن [أبي] ليلى الذي قال للإمام الحسن الزكي عليه السلام: السلام عليك يا مذل المؤمنين! وفي الرواية أن الإمام الحسن عليه السلام سأله فقال: ما جاء بك؟ قال: حُبّك. قال: الله. قال: الله. قال: فقال الحسن عليه السلام: والله لا يحبان عبد أبداً ولو كان أسيراً في الديلم إلا نفعه الله بحبنا، وإن حبنا ليساقط الذنوب من بني آدم كما تساقط الريح الورق من الشجر. (اختيار معرفة الرجال: 194).

وهذا الخبر ليس فيه أي دلالة على أن الإمام عليه السلام اعتبر سفيان بن أبي ليلى من جملة شيعته، وكلام الإمام عليه السلام في ثواب من أحب أهل البيت عليهم السلام عام، ولا دلالة في الحديث على أن الإمام صدقه في حبه له، فضلاً عن أن يحكم عليه أنه من شيعتهم عليهم السلام، ولذلك استحلفه بعد قوله: حبك.

فقد ذكر التستري قدس سره أن قوله: «الله... الله» من جملة التحريفات التي أصابت هذه الرواية، قال: والظاهر أن الأصل: «قال: بالله؟ قال: بالله»، والفاعل في الأول الحسن عليه السلام، وفي الثاني سفيان. (قاموس الرجال 5/142).

ولو سلمنا بأن هذا الرجل كان من الشيعة، والإمام كان يعده من شيعتهم عليهم السلام، فإن صدور مثل هذا التصرف السيئ تجاه الإمام عليه السلام في حال الغضب، لا يدل على أنه كان لا يعتقد بعصمة الإمام عليه السلام، فإن كثيراً من الناس عندما تصيبهم المصائب ربما يصدر منهم في حق الله تعالى ما لا يحسن من الكلام، مع أنهم يعتقدون أن الله تعالى لا يخطئ في شيء، ولكن بعض الحوادث يكون وقعها على المؤمن شديداً، فربما أخرجته عن حد الاعتدال في القول أو الفعل، ولعل ما صدر من سفيان بن أبي ليلى من هذا القبيل، من غير أن يعتقد بأن الإمام الحسن الزكي عليه السلام كان غير معصوم.

ونتيجة كل ما قلناه: أننا لم نجد في الأخبار ما يدل على أن أصحاب الأئمة الأطهار عليهم السلام كانوا لا يعتقدون بالعصمة، وأن الأئمة عليهم السلام كانوا لا يقولون بعصمتهم عليهم السلام، بل الأمر بخلاف ذلك كما أوضحناه فيما تقدم.