سوق المسلمين

كثر السؤال عن أكل اللحوم والدجاج من المطاعم المنتشرة في بلادنا، هل يجوز الأكل منها على إطلاقه وبلا تحقق؟ أم يجب السؤال والفحص قبل الأكل؟

وهل يجوز الذهاب إلى السوق وشراء اللحوم والدجاج بدون تحقق؟ أم يجب التأكد من أن تلك اللحوم مذكاة بالطريقة الشرعية الصحيحة؟

للإجابة على هذا التساؤل نتطرق لعدة أمور في هذا الموضوع مع تسليط الضوء بشكل خاص على مسألة سوق المسلمين الذي ذكر العلماء أنه أمارة على حلية الذبائح التي تباع فيه.

 

المراد بسوق المسلمين:

المراد بسوق المسلمين ما يعم الأسواق المتعارفة، والدكاكين والمحلات التجارية المتفرقة في المدن ونحوها وإن كانت في مكان لا يسمى سوقاً بحسب عرف الناس، إذ لا خصوصية لما يباع فيما يطلق عليه السوق، بل هو شامل لكل ما ذكرناه.

وعليه فكل ما يباع في هذه الأماكن ونحوها من بلاد المسلمين من الذبائح والدجاج والأسماك والشحوم والجلود والأطعمة المطبوخة التي تباع في المطاعم وغير ذلك مما يبيعه الباعة المتجولون وغيرهم، كله مندرج تحت عنوان ما يباع في سوق المسلمين.

 

حلية ما يباع في سوق المسلمين:

كل ما يباع في أسواق المسلمين التي ذكرناها محكوم بحليتها، من عدة نواح:

1- أنها مملوكة لبائعها: فلا يجب التأكد من أن الذبائح وغيرها مما يباع في تلك الأسواق مملوكة لبائعها أم أن بائعها سرقها ثم باعها، وإن احتمل أو عُلم أن بعض ما يباع في أسواق المسلمين مسروق.

2- صحة التذكية: فلا يجب التحقق من أن اللحوم المحلية المباعة تلك الأسواق، ذُبحت بطريقة شرعية صحيحة، وأنها تمت بشرائطها المذكورة في فتاوى العلماء أم لا، بل يُبنى على تذكيتها وحلية أكلها.

3- طهارة المأكولات والجلود: فيحكم بطهارة الأطعمة والأشربة والألبسة وغيرها مما يباع في سوق المسلمين، وإن احتملت نجاستها وملامسة الكافر لها.

وقد ورد في صراط النجاة للسيد الخوئي (قدس سره) استفتاء نصه:  أعلمُ أنه يوجد في سوق المسلمين لحوم ميتة، أو غير مذكاة ـ استصحاباً ـ ففي صورة أخذ اللحم من السوق، والشك في كونه من المذكى أم غيره، هل يحكم بطهارته وحليته أم لا؟

فأجاب السيد الخوئي قدس سره بقوله: اللحم المذكور محكوم بالطهارة والحلية، والله العالم. (صراط النجاة 2/359).

 

اللحوم المأخوذة من يد الكافر:

وهنا ترد مسألة مهمة أخرى، هي محل الابتلاء في بعض البلاد العربية، وهي أن تكون اللحوم والجلود الموجودة في سوق المسلمين مأخوذة من يد كافر، فهل يشمل حكم الحلية والطهارة هذه اللحوم والجلود المأخوذة من بلاد الكفار؟ أم يتحتم الفحص والسؤال في هذه الحالة؟

هنا يذكر السيد الخوئي قدس سره أن هذا اللحم إذا وجد بيد المسلم يتصرف فيه بما يناسب التذكية مثل تعريضه للبيع والاستعمال باللبس والفرش ونحوهما يحكم بأنه مذكى. (صراط النجاة 2/359).

إلا أن السيد قدس سره ذكر في بعض فتاواه ما يستفاد منه الجواب على هذه المسألة حيث قال: إذا علم أن المسلم أخذه من الكافر من دون تحقيق حكم عليه بعدم التذكية.

وفي فتوى أخرى قال الخوئي قدس سره: ما يؤخذ من يد الكافر من جلد ولحم وشحم يحكم بأنه غير مذكى وإن أخبر بأنه مذكى. (منهاج الصالحين 2/342).

والملاحظ أن في الأسواق الخليجية في زماننا هذا لحوم وجلود تردنا من بلاد الكفار، ولا يتحقق البائعون من كونها مذكاة أم لا، ففي هذه الحالة وحسب فتوى السيد الخوئي وغيره من العلماء يحكم بعدم حلية هذه اللحوم والجلود وغيرها.

وهنا ينبغي التنبيه على أن سوق المسلمين بحد ذاته لا يحلل اللحوم غير المذكاة المأخوذة من بلاد الكفار، فلو أن شخصاً ذهب إلى بلاد غير إسلامية كالبرازيل مثلاً، واشترى منها لحوماً، فإن تلك اللحوم يحكم بعدم تذكيتها وحرمة أكلها، فلو جاء بها إلى سوق المسلمين وباعها فيه، فإنها تبقى على ذات الحكم، ولا يغير وجودها في سوق المسلمين في حكمها شيئاً.

 

الدليل على حجية سوق المسلمين:

من ضمن الأدلة التي استدل بها على حجية السوق صحيحة الفضلاء أنهم سألوا أبا جعفر عن شراء اللحم من الأسواق ولا يدرون ما صنع القصابون، قال: كُلْ إذا كان ذلك في أسواق المسلمين، ولا تسأل عنه. (تهذيب الأحكام 9/72).

وصحيحة أحمد بن أبي نصر عن الرضا أنه سأله عن الخفَّاف يأتي السوق فيشتري الخف، لا يدري أذكي هو أم لا، ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري أيصلي فيه؟ قال: نعم، أنا أشتري الخف من السوق، ويُصنع لي وأصلي فيه، وليس عليكم المسألة. (تهذيب الأحكام 2/371).

وصحيحته الأخرى، قال: سألته عن الرجل يأتي السوق، فيشتري جبة فراء، لا يدري أذكية هي أم غير ذكية، أيصلي فيها؟ قال: نعم، ليس عليكم المسألة، إن أبا جعفر كان يقول: إن الخوارج ضيَّقوا على أنفسهم بجهالتهم ان الدين أوسع من ذلك. (تهذيب الأحكام  2/368).

وفي روايات أخرى أنه لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق. (الكافي 7/387).

وذكر السيد حسن البنجوردي قدس سره في القواعد الفقهية 4/169: أن عمدة الوجه في حجية السوق هي السيرة العملية من المتدينين. ومعنى ذلك أن المتدينين في زمن الأئمة عليهم السلام كانوا إذا جاؤوا إلى السوق لا يسألون، فتقرير الأئمة على هذا الفعل هو الدليل على حجية سوق المسلمين.

 

سوق المسلمين أمارة على الحلية:

ذكر الفقهاء أن سوق المسلمين أمارة تدل على الحلية، والأمارة هي كل ما فيه جهة كشف ويفيد الظن بالشيء الذي يكشف عنه.

ومن ضمن الأمارات البينة العادلة، فلو شهد عادلان بأمر ما فإنه يحصل من هذه الشهادة ظن بصحة ذلك الأمر، إلا أن هذه الأمارة وهذا الكشف لا يصل إلى حد العلم والقطع بوقوع ما شهدت عليه البينة، بل هو كشف ظني، إلا أن الشارع المقدس أمرنا بالأخذ بتلك البينة رغم أنها تفيد الظن.

والمسلم إذا أراد أن يبيع لحماً فإنه غالباً يذكيه باعتبار أن التذكية لازمة لحلية أكل تلك الذبيحة، ولهذا اعتُبر سوق المسلمين أمارة على حلية اللحوم المباعة فيه، أي أن كون هذا اللحم يباع في سوق المسلمين فإن ذلك فيه جهة كشف مفيدة للظن بأن الذبيحة المباعة في ذلك السوق مذكاة.

وينبغي الإشارة هنا إلى أن الظن نوعان: ظن نوعي، وظن شخصي.

والظن بحلية ذبائح المسلمين هي ظن نوعي، أي أن المسلم -كنوع- إذا وجد لحماً في سوق المسلمين فإنه في الغالب يظن بحليتها، ولا يشترط حصول الظن الشخصي الذي يعني أن بعض المسلمين ربما لا يحصل عندهم ظن بحلية تلك الذبائح لأسباب ربما لا تكون عقلائية، ولهذا فإن الذبائح التي تباع في سوق المسلمين يحكم بطهارتها وحليتها وإن حصل الظن الشخصي بخلاف ذلك.

 

وهنا نتساءل: ماذا لو لم يتحقق الظن النوعي بتذكية لحوم بعض أسواق المسلمين، كالأسواق في دول الخليج مثلاً؟

أحياناً وبسبب كثرة اللحوم غير المذكاة قد يزول الظن النوعي بحلية اللحوم الموجودة في بعض أسواق المسلمين، بل قد يحصل عند كثير من الناس ظن قوي بأن اللحوم الموجودة في تلك الأسواق غير مذكاة.

وقد سئل السيد الخوئي قدس سره سؤالاً نصه: هل يجب السؤال عن اللحوم في سوق المسلمين، مع العلم بكثرة الميتة فيها؟

فأجاب قدس سره بقوله: إذا كان يعلم كما هو الفرض، فنعم لا بد من السؤال، والله العالم. (صراط النجاة 2/359).

ولا شك أن العلم بكثرة اللحوم غير المذكاة في سوق المسلمين حجة، ولا ينبغي تقديم أمارة سوق المسلمين الظنية على العلم القطعي، وحينئذ لا يكون ذلك السوق أمارة على الحلية في هذه الحالة؛ لأنه معارَض بالعلم، والأمارة الظنية إذا عارضها العلم لا قيمة لها.

ونلاحظ في بعض البلاد الإسلامية في هذا العصر كثرة اللحوم المستوردة من بلاد الكفار؛ لقلة تكلفتها مقارنة باللحوم المحلية، ولحلية ذبائح الكفار عند أهل الخلاف الذين يستوردون هذه اللحوم ويشكلون غالبية الباعة في هذا السوق، وهذا يستوجب الحذر من هذه اللحوم يل يستوجب اجتنابها.

 

الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي:

ذكر العلماء في مباحث الأصول أن الحكم الشرعي تارة يكون حكماً تكليفياً، وتارة يكون حكماً وضعياً، ولكل حكم من هذين الحكمين آثار تترتب عليه.

أما الحكم التكليفي فيترتب عليه الثواب والعقاب، فالحكم التكليفي للصلاة هو الوجوب، وأداء الصلاة يترتب عليه الثواب، وتركها يترتب عليه العقاب، والحكم التكليفي لشرب الخمر الحرمة، فشربه يترتب عليه العقاب، وتركه يترتب عليه الثواب.

وأما الحكم الوضعي فيترتب عليه آثار تكوينية أخرى غير الثواب والعقاب، كما هو الحال في شرب الخمر، فإن حكمه التكليفي هو الحرمة كما قلنا آنفاً، وأما حكمه الوضعي فهو ما يترتب عليه من الآثار التكوينية كالإسكار والنجاسة ونحو ذلك، وهذا الأثر التكويني لا يسقط بسقوط الحكم التكليفي وآثاره، بمعنى أن المكلف لو شرب الخمر ظناً منه أنه عصير عنبي مثلاً، فإن الحكم التكليفي يكون ساقطاً في حقه، لجهله بكون ما شربه خمراً، إلا أن الأثر التكويني وهو الإسكار لا يرتفع عنه، وكذلك الحال لو أن رجلاً تقياً أُكره على شرب الخمر رغماً عنه، فلا شك أنه يسكر بالرغم من أنه لا يعاقب  على هذا الفعل الذي أجبر عليه. وهكذا الحال في أمر الذبائح، فإن من أكل لحماً يظن أنه مذكى مع أنه ليس كذلك، فإن الحكم التكليفي وإن سقط في حقه، إلا أن الحكم الوضعي أو الأثر التكويني يكون باقياً.

وقد سئل السيد الخوئي قدس سره سؤالاً نصه: إذا أكل المؤمن ما يحرم أكله، أو شرب ما يحرم شربه غفلة، أو جهلا، فهل يترتب على ذلك الآثار التكوينية المعنوية، كإذهاب المروءة والغيرة، كما في أكل لحم الخنزير، والتأثير على النطفة كما في شرب الخمر، وما شاكل ذلك؟

فأجاب قدس سره بقوله: نعم، يترتب عليه الآثار التكوينية في الجملة، والله العالم (صراط النجاة 2/359).

وعليه فإن علم المكلف بعدم حرمة ما يأكله من الذبائح في بعض الأحيان لا يسقط الآثار السيئة التي تترتب على ذلك.