تأملات في آيات الإفك (2)

مسجد إبراهيم الخليل ـ حي النور ـ سيهات (محافظة القطيف)

 

(إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور:11].

ç سبب نزول آيات الإفك:

آيات الإفك تدل على أن جماعة من الصحابة قذفوا واحدة من النساء، وقد أجمع المسلمون على أن المرأة المقذوفة هي إحدى زوجات رسول الله ، إلا أن الكلام في هذه المرأة المقذوفة بالزنا من هي؟

1- الرواية المشهورة عند أهل السنة والجماعة أن المرأة المقذوفة بالزنا هي عائشة بنت أبي بكر، ورتب بعض علماء أهل السنة على ذلك أن من طعن في عرض عائشة، أو أتهمها بالزنا، فقد رد آيات الإفك، ومن رد شيئا من القرآن فقد كفر.

قال ابن حزم في المحلى: بسنده عن الإمام مالك بن أنس قال: من سبَّ أبا بكر وعمر جُلد، ومن سبَّ عائشة قُتل. قيل له: لم يقتل في عائشة؟ قال: لأن الله تعالى يقول في عائشة (رضي الله عنها): (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين). قال مالك: فمن رماها فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل.

قال ابن حزم: قول مالك ههنا صحيح، وهي ردة تامة، وتكذيب لله تعالى في قطعه ببراءتها، وكذلك القول في سائر أمهات المؤمنين ولا فرق؛ لأن الله تعالى يقول: (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) [النور: 26]، فكلهن مبرءات من قول إفك، والحمد لله رب العالمين. (المحلى ).

ç الدليل على أن آيات الإفك نزلت في عائشة:

ومستند القول بأن آيات الإفك نزلت في عائشة هو الحديث المروي عن عائشة الذي أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين أن عائشة ذكرت أن النبي غزا غزوة، فأقرع بين نسائه فخرج سهم عائشة، فأخذها معه، فلما فرغ النبي من الغزوة وقفل راجعاً إلى المدينة، نزلوا بمنزل قريب من المدينة، وكانت عائشة قد فقدت عقدها، فذهبت تبحث عنه، فذهب الجيش وترك عائشة وهم يظنون أنها في هودجها، فلما رجعت لم تجد أحداً، فجلست في مكانها، فجاء رجل جعله المسلمون خلف الجيش هو صفوان بن المعطَّل السُّلَمي، فعرف أنها عائشة، فحملها على راحلته، فالتحقوا بالجيش قرب المدينة، فصار المنافقون يشيعون اتهام عائشة، والذي تولى ذلك هو عبد الله بن أبي بن سلول المنافق.

وهذه القصة طويلة، ومفصلة، جاء في خاتمتها أن الله تعالى أنزل آيات الإفك، وبرأ عائشة مما اتهمت به من الزنا.

ç ملاحظات على حديث عائشة:

حديث عائشة لنا عليه ملاحظات سندية ودلالية.

§                    الملاحظات السندية على حديث عائشة:

(1) أن الحديث جمعه ابن شهاب الزهري، ولفقه من عدة أحاديث مروية عن عائشة، بمعنى أن عائشة لم تقل كل هذه القصة الطويلة في رواية واحدة، وإنما روى عنها بعضهم جزءاً، وروى بعضهم عنها جزءاً آخر، فجمعه الزهري من رواة أربعة، فجاءت هذه القصة بكاملها.   

قال البخاري: عن ابن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص الليثي، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة (رضي الله عنها) زوج النبي حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله منه، قال الزهري: وكلهم حدثني طائفة من حديثها، وبعضهم أوعى من بعض وأثبت له اقتصاصاً [أي أحفظ وأحسن إيراداً وسرداً للحديث]، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة، وبعض حديثهم يصدِّق بعضاً، زعموا أن عائشة قالت... الحديث.

والعيني في كتابه (عمدة القاري في شرح صحيح البخاري) ذكر هذا الإشكال، ودفعه بأن هذا التلفيق في القصة لا يضر بما أنه نقلها عن رواة ثقات، والحال أن الزهري معروف بالإدراجات والبلاغات، وهذا موهن للرواية على كل حال.

(2) أن هذا الحديث مروي عن عائشة فقط، وهو غريب جدًّأ؛ لأن العادة جارية أن المرأة التي تتهم بالزنا لا تشيع ذلك، ولا تتكلم به، وإنما يتكلم به غيرها، ورغم أنه نزلت في الإفك عشر آيات في القرآن الكريم، وأن النبي ـ كما في حديث عائشة ـ خطب الناس على المنبر، واجتمع المسلمون لذلك، وكثر اللغط بين الأوس والخزرج، حتى كادوا أن يقتتلوا، وأقيم حد القذف على ثلاثة من الصحابة، ومع ذلك لم يرو هذه الحادثة المهمة غيرُ عائشة فقط، مع أن أحداثاً أقل شأنا من هذه الحادثة رواها رواة متعددون.

ومع أن هناك أحاديث أخر ربما تعتبر شواهد على صحة هذا الحديث إلا أن تلك الأحاديث مروية أيضاً عن عائشة.

منها: ما رواه البخاري بسنده عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية، فخطب، فجعل يذكر يزيد بن معاوية، لكي يبايَعَ له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي) [الأحقاف: 17]، فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلا أن الله أنزل عذري.

وهذا الحديث مضافاً إلى أنه مروي عن عائشة أيضاً فإنه ينفي كل ما قيل من نزول آيات من القرآن في أبي بكر، وأشهرها آية الغار؛ لأن عائشة قالت في هذا الحديث: (ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلا أن الله أنزل عذري)، وهي قد قالت ذلك في أواخر زمان معاوية.

ومنها: ما رواه الطبراني بسند صحَّحه ابن حجر في  فتح الباري عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة، قالت: لما بلغني ما تكلموا به هممت أن آتي قليباً فأطرحَ نفسي فيه.

وهذا الحديث منافٍ لما ورد في حديث الإفك من أن عائشة لما بلغها ما اتهمت به قالت: (والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف إذ قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 18]، ثم تحولتُ إلى فراشي، وأنا أرجو أن يبرئنيَ الله).

وأما هذا الحديث فقد ورد فيه أن عائشة همت بالانتحار بسبب اتهامها بالإفك، وهذا أمر غريب جداً، وهو يشبه ما روي أيضا في صحيح البخاري أن النبي كلما تأخر عنه الوحي أوفى بذورة جبل لكي يلقي بنفسه من هناك، فيتبدى له جبريل ، ويقول له: يا محمد أنت رسول الله حقاً.

نعم، أخرج البخاري في صحيحه حديثاً في الإفك روته أم رُوْمان، وهي أم عائشة، قال البخاري: حدثنا محمد بن سلام، أخبرنا ابن فضيل، حدثنا حصين، عن سفيان، عن مسروق، قال: سألت أم رُوْمان وهي أم عائشة عما قيل فيها ما قيل، قالت: بينما أنا مع عائشة جالستان إذ ولجت علينا امرأة من الأنصار وهي تقول: فعل الله بفلان وفعل، قالت: فقلت: لم؟ قالت: إنه نما ذكرَ الحديث، فقالت عائشة: أي حديث؟ فأخبرتها. قالت: فسمعه أبو بكر ورسول الله ؟ قالت: نعم. فخرت مغشيا عليها، فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض، فجاء النبي ، فقال: ما لهذه؟ قلت: حمى أخذتها من أجل حديث تحدث به، فقعدتْ، فقالت: والله لئن حلفت لا تصدقونني، ولئن اعتذرت لا تعذرونني، فمثلي ومثلكم كمثل يعقوبَ وبنيه، فالله المستعان على ما تصفون. فانصرف النبي ، فأنزل الله ما أنزل، فأخبرها فقالت: بحمد الله لا بحمد أحد.   

قال الخطيب البغدادي في كتاب المراسيل: أخرج البخاري عن مسروق عن أم رومان (رضي الله عنها) وهي أم عائشة طرفاً من حديث الإفك، وهو وهم، لم يسمع مسروق من أم رومان (رضي الله عنها)؛ لأنها توفيت في عهد النبي ، وكان لمسروق حين توفيت ست سنين، قال: وخفيت هذه العلة على البخاري، وأظن مسلماً فطن لهذه العلة، فلم يخرجه له، ولو صحَّ هذا لكان مسروق صحابيًّا، لا مانع له من السماع من النبي ، والظاهر أنه مرسل، قال: ورأيته في تفسير سورة يوسف من الصحيح عن مسروق قال: سألت أم رومان فذكره. قال: وهو من رواية حصين عن شقيق عن مسروق، وحصين اختلط، فلعله حدَّث به بعد اختلاطه، وقد رأيته من رواية أخرى عنه عن شقيق عن مسروق، قال: (سألت أم رومان)، فلعل قوله في رواية البخاري: (سألت) تصحيف من: (سُئلتْ).

وقال ابن عبد البر: رواية مسروق عن أم رومان مرسلة، وتبعه القاضي عياض، وتبعهما جماعة من المتأخرين. (عن فتح الباري ).

والنتيجة: أن هذه الرواية مرسلة، لا يصح العمل بها. مع أن الوارد في حديث الإفك أن عائشة بلغها الخبر من أم مسطح، لكن وقع في حديث أم رومان ما يخالف ذلك، وهو أن امرأة من الأنصار أخبرتهم بذلك.

وهنا لا بد من التنبيه إلى أن صحيح البخاري لم يتحقق إجماع من علماء أهل السنة على صحة كل ما فيه كما يقوله من لا معرفة له بأقوال علماء أهل السنة.

والذي نتوصل إليه من كل ما تقدم أن حديث الإفك المروي عن عائشة مشتمل على عدة ملاحظات سندية، لا تجعل عندنا وثوقا بأن آيات الإفك نزلت في عائشة بنت أبي بكر.

 

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
محمد عبد الفتاح بسيوني
[ مصر - القاهرة ]: 7 / 11 / 2010م - 11:24 ص
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله واصحابه سواء بسواء شاء من شاء وابى من ابى

اما بعد

فان لم تكن الايات نزلت في السيدة عائشه رضي الله تعالى عنها وارضاها لمجرد الفرض بكلامكم ,,,اقول ان لم تنزل في ام المؤمنين بالله عليك فيمن نزلت هده الايات ونحن لا نعلم تفسيرا ولا رواية اخرى لامرأة اخرى اتهمت بهده التهمة التي لا تخرج الا من قلب مريض

وحتى لو لم تنشروا تعليقي هدا فاني ارحب بسماع الرد على ايميلي الخاص والدي بينته عندكم قبل المشاركة والسلام
تعليق الإدارة:
عرضنا كلامك على سماحة الشيخ فأجاب بقوله: إن كلامنا في آية الإفك لم يتم بعد ، وللحديث تتمة سنبين فيها أن آية الإفك نزلت في زوجة أخرى من زوجات رسول الله (ص) غير عائشة، وهي مارية القبطية رضي الله عنها، وهذا ما دلت عليه روايات صحيحة مروية من طرق أهل السنة والشيعة، فانتظر بارك الله فيك ولا تعجل.
2
محمد عبد الفتاح بسيوني
[ مصر - القاهرة ]: 9 / 11 / 2010م - 9:21 ص
انا سعيد انكم لم تنشروا ردي الماضي لان هذا بحق يرضي قناعاتي