وابتغوا إليه الوسيلة

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة: 35).

معنى الآية المباركة:

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) خطاب لعموم المؤمنين، إلا أن التكليف بتقوى الله تعالى عام لهم ولغيرهم، وإنما خص المؤمنون بالخطاب لأنهم هم الذين يمتثلون أوامر الله تعالى دون سواهم، أو خصوا بالخطاب تشريفاً لهم.

وقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ) أمر بتقوى الله تعالى، والمراد اتقاء معصيته أو مخالفته، أي تجنب ذلك،  وهذا يتحقق بامتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه.

وقوله تعالى: (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) أي اطلبوا الوسيلة إليه، أي الوصلة والقربة. يقال: توسلت إليه بكذا إذا تقربت إليه.

قوله تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) الأمر بالجهاد يشمل نوعين من الجهاد:

1-                    الجهاد الأصغر: وهو مجاهدة الكفار والمشركين في ميدان القتال، ومجاهدة المنافقين بالحجة والدليل.

2-                    الجهاد  الأكبر: وهو جهاد النفس بامتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه سبحانه.

قوله سبحانه: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) مشعر أن سبب الفلاح ثلاثة أمور:

1-                    تقوى الله تعالى.

2-                    الأخذ بالوسيلة.

3-                    الجهاد في سبيله.

فهناك ثلاثة أمور مرتبطة: تقوى الله وهو إصلاح النفس، والجهاد في سبيله وهو إصلاح الآخرين، وما يوثق الارتباط بالله تعالى وهي الوسيلة، وهذا ما أشارت إليه الآية المباركة الأخرى، وهي قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) (الإسراء: 57).

الوسيلة المتفق عليها:

الآيتان المباركتان السابقتان تدلان على وجود الوسيلة إلى الله تعالى، ولولا ذلك لما أمرت الأمة بطلبها وابتغائها.

ولهذا وقع الاتفاق بين المسلمين على جواز التوسل إلى الله تعالى، وقد ذكروا عدة أمور يصح التوسل بها إلى الله تعالى، منها:

أولا: التوسل إلى الله بأسمائه، كقوله: يالله اغفر يا غفور.

ثانيا: التوسل إلى الله تعالى بصفاته: مثل قوله: برحمتك ارحمني وبعفوك اعف عني.

ثالثا: التوسل إلى الله تعالى بأفعاله: كما خلقتني فارحمني، وكما رزقتني فوسع علي.

رابعا: التوسل إلى تعالى بذكر حال الداعي، كقول موسى: (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير).

خامسا: التوسل إلى الله تعالى بدعاء من ترجى إجابته، كطلبك من أخيك المؤمن أن يدعو لك.

سادسا: التوسل إلى الله تعالى بالإيمان، كقوله: الله إني آمنت بك وبرسولك، فاغفر لي ، أو يقول: اللهم بإيماني بك وبرسولك أسألك كذا وكذا.

سابعا: التوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح، كمن يتوسل إلى الله تعالى بما فعل من الخير، كبر والديه، وصلة أرحامه، وعونه للضعفاء والمساكين وما شاكل ذلك.

أنواع التوسل المختلف فيها:

وقع الاختلاف بين السلفيين وبين غيرهم في جملة التوسل

الأول: التوسل بجاه النبي أو بغيره من الأموات أو بذواتهم، وذلك أن جاه الرسول أو غيره ليس مفيدا بالنسبة إلى الداعي.

الثاني: التوسل بدعاء الميت أو الغائب، يطلب من الميت أن يدعو الله له.

وهذان الأمران، هما اللذان وقع النزاع فيهما بين السلفيين وغيرهم.

هل التوسل بذات الميت شرك؟

ذكر السلفيون أن التوسل بالميت أو بالغائب أو بذات النبي وغيره شرك، واستدلوا على ذلك بأن ذلك دعاء لغير الله سبحانه، ومن دعا غير الله فقد أشرك، والله تعالى يقول: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) (المؤمنون:117).

وهذا كلام مردود بعدة أمور:

1- أن الدعاء له معانٍ متعددة، ذكرها علماء اللغة:

أحدها: العبادة، كما في قوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الكهف: 28) ،أي يعبدون ربَّهم.

ثانيها: النداء، كقولك: يا زيد، وكما في قوله تعالى: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) (الإسراء: 52)، أي يناديكم.

ثالثها: التسمية، كقولهم: دعوتُ ابني زيداً، أي أسميته، قال تعالى: (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)(النور: 63).

رابعها: الطلب، كما في قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(غافر: 60).

خامسها: الاستغاثة، كما في قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ) (الأنعام: 40، 41).

وغير ذلك.

ومنه يتبيَّن أن العبادة هي أحد معاني الدعاء، وأن الاستغاثة وإن اشتملت على نداء أو طلب حاجة، لكنها لا تكون عبادة بالضرورة؛ إذ ليس كل نداء وطلب حاجةٍ عبادة.

 2- أن الدعاء إنما يكون عبادة إذا كان مقترناً باعتقاد الألوهية في المدعو، وأما إذا لم يكن كذلك فليس بعبادة، ولولا ذلك لكان كل دعاء عبادة، وهذا لا يقوله جاهل فضلاً عن فاضل.   

وعليه، فلا فرق بين دعاء الحي ودعاء الميت ما دام الداعي لا يعتقد بألوهية المدعو؛ لأن الدعاء حينئذ ليس بعبادة في الموردين.

3- أن التوسل سواء أكانت بالحي الحاضر أم بالميت أم بالغائب فهي لا تعدو كونها طلب العون من مخلوق، وطلب العون من المخلوق إن كان نوعاً من العبادة فهو غير جائز مطلقاً، لا من الحي ولا من الميت، وإن لم يكن التوسل نوعاً من العبادة كما هو الصحيح فهي جائزة بالحي والميت على حد سواء من غير فرق بين التوسل بالميت والغائب، والتوسل بالحي الحاضر، فالتفريق بين هذه الموارد لا أساس له.

4- أن من توسل بميت أو غائب إنما يكون مشركاً إذا اعتقد أن المتوسل به هو الفاعل الحقيقي لما طلبه المتوسل، وأنه لم يكن مجرّد سبب وأن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى. 

وأما إذا توسل بميت أو غائب في شفاء مريض أو جلب نفع أو دفع ضرر، واعتقد أن الميت ما هو إلا سبب من الأسباب، وأن الله تعالى هو الفاعل الحقيقي، وأنه سبحانه إنما فعله إكراماً لذلك النبي أو الولي، أو بسبب التوسّل به، فلا محذور في البين، ولا يُعد مثل هذا العمل عبادة للميت بأي نحو من الأنحاء، ولا يعتبر تشريكاً بين المخلوق والخالق سبحانه، سواء أكان المطلوب من المتوسل به أمراً يقدر عليه البشر، أم أمراً لا يقدر عليه إلا الله تعالى، كشفاء المريض، وإحياء الموتى، وما شاكل ذلك؛ لأن المتوسل إنما يطلب قضاء تلك الحاجات من الله سبحانه بواسطة المستغاث به.

5- أن المتوسل بالأنبياء أو الأولياء عليهم السلام يعتقد أنهم أحياء عند ربهم يُرزقون، وأن توسله بهم يبلغهم بأي نحو كان، وأنهم يشفعون له عند ربِّهم في قضاء حاجاته، ويدْعون الله سبحانه وتعالى له، وأن الله تبارك وتعالى يشفِّعهم في تلك الحاجات، بغض النظر عن كون هذا الاعتقاد صحيحاً أو غير صحيح.

وكثيراً ما يكون هذا المتوسل قد دعا الله تعالى فلم يُستجب دعاؤه، وألحَّ عليه في الطلب فلم تُقضَ حاجته، ولذلك لجأ إلى هذه الوسائط، لاعتقاده أنهم إذا طلبوا حاجاته من الله تعالى قُضيتْ؛ لأنهم أقرب إلى الله تعالى منه، وأن الله سبحانه يشفِّعهم، ويستجيب دعاءهم فيما طلبوا الشفاعة فيه.

أو لأن هذا المتوسل يعتقد أن الله تعالى وهب الأنبياء والأولياء قدرة ذاتية خاصَّة تمكِّنهم من قضاء الحاجات التي لا يقدر عليها غيرهم من البشر في حياتهم وبعد موتهم، كما أعطى عيسى بن مريم القدرة على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فلا وجه حينئذ لتوهّم أن هذا المتوسل قد أشرك مع الله إلهاً آخر قادراً على النفع والضر.

6- أن المتوسل بالحي الحاضر ربما يغفل عن الفاعل الحقيقي، وهو الله سبحانه، فيتصوَّر أن فاعل الشفاء هو الحي المتوسل به، بخلاف من توسل بميت أو بحي غائب، فإنه ينسب الفعل لا محالة إلى الله تعالى، فيكون المتوسل بالميت أقرب إلى التوحيد ممن توسل بالحي الحاضر.

7- أن بعض الصحابة توسلوا برسول الله في طلب الشفاء من أمور لا يقدر عليها إلا الله تعالى.

فقد أخرج البخاري 1/64 بسنده عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه، قال: ابسط رداءك. فبسطته، قال: فغرف بيديه، ثم قال: ضُمَّه. فضممته، فما نسيت شيئاً بعده.

ومن الواضح أن أبا هريرة بحسب دلالة هذا الحديث إنما توسل برسول الله لشفائه من حالة النسيان التي كان يعاني منها، ولم يسأل النبي أن يدعو له.

وقتادة بن النعمان ـ وهو صحابي بدري ـ  سأل رسول الله أن يردَّ عليه حدقته بعد أن سالت على وجنته.

قال الحاكم النيسابوري في المستدرك 3/334: وشهد قتادة بن النعمان العقبة مع السبعين من الأنصار، وكان من الرماة المذكورين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد بدراً وأحداً، ورُميتْ عينه يوم أحد، فسالت حدقته على وجنته، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن عندي امرأة أحبّها، وإن هي رأت عيني خشيتُ تقذّرها. فردَّها رسول الله بيده، فاستوت ورجعت، وكانت أقوى عينيه وأصحّهما بعد أن كبر، وشهد أيضاً الخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

   ومن الواضح أن قتادة بن النعمان إنما سأل رسول الله أن يردَّ عليه عينه التي سالت على وجنته، وهذا أمر لا يقدر عليه إلا الله سبحانه، ولم يرد في كلام قتادة أنه طلب الدعاء من النبي .

8- أن جملة من علماء أهل السنة توسلوا برسول الله في قضاء حاجاتهم فقضيت لهم، ولو كان التوسل بالنبي شركاً لما قضيت لهم به حاجة.

منهم: القسطلاني:

قال: وأما التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد موته في البرزخ فهو أكثر من أن يحصى أو يدرك باستقصاء...

إلى أن قال: ولقد كان حصل لي داء أعيا دواؤه الأطباء، وأقمت به سنين، فاستغثت به صلى الله عليه وسلم ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة بمكة زادها الله شرفاً، ومنَّ عليَّ بالعود في عافية بلا محنة، فبينا أنا نائم إذ جاء رجل معه قرطاس يكتب فيه: هذا دواء لداء أحمد بن القسطلاني من الحضرة الشريفة بعد الإذن الشريف النبوي، ثم استيقظت فلم أجد بي والله شيئاً مما كنت أجده، وحصل الشفاء ببركة النبي صلى الله عليه وسلم. (المواهب اللدنية 3/418).