أن زواج قتيلة بنت قيس لا يقتضي المساس بعرض رسول الله صلى الله عليه وآله، وذلك لعدة أمور:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وآله طلقها في حياته، ولم تعد في عصمته، ولا تعد من ضمن زوجاته صلى الله عليه وآله، والعرف يرى أنها أجنبية عنه، وهي شرعاً كذلك، وإلا لو بقيت في عصمته شرعاً لما كانت هناك أي فائدة للطلاق الذي وقع منه صلى الله عليه وآله.
نعم ورد في بعض الأخبار ما يدل على أن كل من طلقها النبي صلى الله عليه وآله لا يحل لها أن تتزوج بعده، سواء كان ذلك في حياته أم بعد مماته.
فقد روى أحمد بن محمد بن عيسى بسنده عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وآله تزوج امرأة من بني عامر بن صعصعة يقال لها (سناه)، وكانت من أجمل أهل زمانها، فلما نظرت إليها عائشة وحفصة قالتا: لتغلبنا على رسول الله. فقالتا لها: لا يرى رسول الله صلى الله عليه وآله منك حرصا. فلما دخلت على النبي فناولها يده، فقالت: أعوذ بالله منك. فانقبضت يد رسول الله عنها، فطلقها، وألحقها بأهلها. وتزوج رسول الله امرأة من كندة، ابنة أبي الجون، فلما مات إبراهيم ابن رسول الله ابن مارية القبطية قالت: لو كان نبيا ما مات ابنه. فألحقها رسول الله بأهلها قبل أن يدخل بها، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، وولى الناس أبو بكر أتته العامرية والكندية وقد خطبتا، فاجتمع أبو بكر وعمر فقالا لهما: اختارا إن شئتما الحجاب، وإن شئتما الباه. فاختارتا الباه، فتزوجتا، فجذم أحد الرجلين، وجن الآخر. قال عمر بن أذينة: فحدثت بهذا الحديث زرارة والفضيل، فرويا عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: ما نهى النبي عن شيء إلا وقد عصي فيه، حتى لقد نكحوا أزواجه، وحرمة رسول الله صلى الله عليه وآله أعظم حرمة من آبائهم. (النوادر: 103).
والظاهر من قوله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) [الأحزاب: 6]، هو عدم حلية التزويج بكل امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله، وذلك لأن تشبيه نساء النبي صلى الله عليه وآله بالأمهات إنما هو في حرمة التزويج بهن، ولا فرق بين من طلقها النبي صلى الله عليه وآله في حياته، ومن توفي عنها، كما هو حال الأمهات النسبيات.
وبتعبير آخر أقول: إن من طلقها النبي صلى الله عليه وآله في حياته لا يجوز التزويج بها، لكن لو فعلت أمراً سيئاً فإنها لا تشين رسول الله صلى الله عليه وآله بسبب أنها مطلقة، والمطلقة لا تشين طليقها عند العرف.
الثاني: أنا لا نجزم بأن النبي صلى الله عليه وآله قد تزوج بالكندية أو تزوج بقتيلة بنت قيس، كما أننا لا نجزم بأن قتيلة قد تزوجت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، ولكن ذلك مروي، وما لم نجزم بالأمر فلا يصح أن نخرم القاعدة التي ذكرناها فيما سبق من أن زوجات الأنبياء عليهم السلام لا يقع منهن الفحش والفجور.
على أن الرواية التي نقلناها دلت على أن أحد الرجلين اللذين تزوجا بالكندية والعامرية جذم، والآخر جن، ولعل ذلك قد حصل قبل الدخول، فلم يتحقق زواج فعلي، وإنما حصل عقد نكاح فقط، لم يعد له أثر بعد جنون أحد الرجلين وجذام الآخر، والله العالم.
الثالث: أنا لو سلمنا أن بعض النساء اللاتي طلقهن النبي صلى الله عليه وآله قد تزوّجن بعده كما يظهر ذلك من الرواية السابقة وغيرها، فمضافا إلى أنا لا نجزم بحصول الدخول بهن كما قلنا، فإن حرمة التزويج بهن المستلزمة لبطلان عقد النكاح بهن لا تستلزم وقوعهن في الزنا لو سلمنا بحصول الدخول بهن؛ لاحتمال أن من تزوجت منهن كانت ترى أنه يجوز لها التزويج، ولا سيما بعد أن خيرها أبو بكر وعمر بين الحجاب والباه (أي التزويج)، فالوطء الحاصل بهذا الزواج يكون وطء شبهة، ووطء الشبهة لا يؤاخذ عليه الرجل والمرأة إذا كانا معذورين في ذلك، ولا يتنافى مع الصون والعفاف، ولا يشين عند العرف، والله العالم.