السيد أبو القاسم الكوكبي التبريزي
المرجع الديني آية الله العظمى السيد أبو القاسم الكوكبي التبريزي قدس سره
(1345 - 1426 هـ)
وكانَ ممن حازَ أعلى الرتبِ السيدُ الفَذُ الفقيهُ "الكوكبي"
أستاذُهُ الخُوئيُ فيهِ أَملاَّ بأنْ يكونَ مرجعاً بينَ الملا
فصارَ مرجعاً كما تنبى كأنهُ قد استشفَ الغيبا
هو سماحة آية الله العظمى، الفقيه المحقق، والأصولي المدقق، المرجع الديني المعظّم، السيد أبو القاسم، نجل العالم الرباني السيد علي أصغر الباغميشي الكوكبي (طيب الله تربته، ورزقنا شفاعته).
وُلدَ قدس سره في منطقة (باغميشة) التابعة لمحافظة (تبريز)، سنة ألف وثلاثمائة وخمسة وأربعين من الهجرة النبوية الشريفة، ولم يمكث في بلده إلا قليلاً حتى غادرها برفقة والده المقدس إلى قم المقدسة، وفيها تعلم القرآن الكريم، غير أنَّ الشيخ عبد الكريم الحائري (قده) مؤسس الحوزة العلمية في قم المشرفة، قد طلبَ من والد السيد الكوكبي (قده) أن يعود إلى منطقته ويمكث فيها مرشداً ومعلماً؛ لشدة حاجة أهلها إليه، فرجعَ إليها مع كل أفراد عائلته، وهناك نشأَ السيد الكوكبي (قده)، وعند أساتذتها أخذَ مقدمات العلوم، [وقد درس كثيراً من تلك المتون عند العلامة الجليل الميرزا فرج الله التبريزي حيث أخذ عنده: جامع المقدمات، وشرح السيوطي، والمغني، والمطوّل، والمعالم.]
غيرَ أنَّ الطموح للرقي العلمي الذي كان يعيشه السيد الكوكبي جعله يعيد التفكير في الرجوع إلى قم المقدسة، فرجّحَ له والده المقدس ذلك، نظراً لتواجد عمه وعمته هناكَ مِن ناحيةٍ، ووجود علاقة وثيقة جداً بين أبيه وبين أستاذ الفقهاء السيد الحجة الكوهكمري (قده) من ناحيةٍ أخرى، فيممَ بوجهه شطر حوزة قم المقدسة، ليكون تحت رعاية وإشراف السيد الكوهكمري في سائر شؤونه العلمية والحياتية.
وهناك أخذَ بالحضور على المبرزين من أساتذتها، في مرحلتي السطوح المتوسطة والسطوح العليا، [ومن أساتذته في هذه المرحلة:
1-آية الله الميرزا حسن الصادقي التبريزي رحمه الله، حضر لديه شرح اللمعة.
2-آية الله الميرزا محمد المجاهد التبريزي رحمه الله، حضر لديه فرائد الأصول.
3-آية الله العظمى السيد محمد الداماد رحمه الله، حضر لديه كامل كتابي المكاسب والكفاية.
4-آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي رحمه الله، حضر لديه منظومة السبزواري.
ثم حضر أبحاث الخارج على يد ركني الحوزة آنذاك: السيد البروجردي والسيد الحجة الكوهكمري (قدهما)، فحضر لدى السيد البروجردي في الفقه ولدى السيد الحجة في الفقه والأصول عدة سنوات واستفاد منهما كثيراً، وكان إلى جانب ذلك مشتغلاً بالتدريس، فدرّس المطوّل وشرح اللمعة وشرح التجريد والرسائل والمنظومة]
الهجرة إلى النجف الأشرف:
ولما كانَ منهوماً في طلبه للعلوم والمعارف، أخذَ يحثّ الخطى نحو حوزة العلم الكبرى، مشتاقاً لمجاورة باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، [فسافر إليها سفرة استطلاعية استمرت ستة أشهر، حضر خلالها دروس أعاظم أساتذتها وأكابر فقهائها، وهم:
1-آية الله العظمى السيد عبد الهادي الشيرازي قدس سره
2- آية الله العظمى السيد محسن الحكيم قدس سره
3- آية الله العظمى السيد محمود الشاهرودي قدس سره
4- آية الله العظمى الميرزا باقر الزنجاني قدس سره
5-آية الله العظمى الشيخ حسين الحلي قدس سره
6- آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره
ثم لما وجد أن أمور إقامته مع عائلته في النجف الأشرف متيسرة عاد لإيران من أجل إحضار عائلته وبعد عدة أشهر هاجر إلى النجف الأشرف و] ألقى بعصاه سنة 1374 هـ، [وانتخب اثنين من الأساتذة السابق ذكرهم] فحضر في الفقه عند السيد الحكيم، وفي الفقه والأصول عند المحقق الخوئي (قدهما)، وكانَ مغرماً بدرس الأخير منهما، حتى نُقل في أحواله: بأنه لم يفته أيُ درس من دروسه - حتى التعطيلي منها - مهما كانت ظروفه وأحواله.
وقد اهتمَّ بتقرير الدروس التي حضرها، وقامَ بعرضها على أستاذه المحقق الخوئي (قده) فأمضاها وقرظها، وقد جاء في تقريظه الأول المؤرخ بسنة 1376 هـ: " فهذه نبذة من المباحث الأصولية، التي كتبها جناب العلامة، صفوة العلماء العاملين، قرة عيني الأعز، السيد أبو القاسم التبريزي الباغميشة (دامت تأييداته) تقريراً لأبحاثي التي ألقيتها في مجلس الدرس، وقد لاحظته فوجدته بالمراد وافياً، وفي أداء المقصود كافياً، مع التحفظ على ترك الإيجاز المخل والإطناب الممل، فلله تعالى دره، وعليه سبحانه أجره، وأسأل الله (جلَّ شأنه) الذي منَّ عليه، فجعله ركناً من أركان الفضل والفضيلة، أن يوفقه لما يرضيه، ويجعل مستقبل أمره خيراً من ماضيه، ويكثر في العلماء أمثاله ".
وقال في تقريظه المؤرخ بسنة 1386 هـ: " العلامة الحجة، قرة عيني العزيز، السيد أبو القاسم الكوكبي (دامت تأييداته)، وقد حضر أبحاثنا الفقهية والأصولية، ومحاضراتنا في التفسير، حضور تمحض وتحقيق، فأصبح من القلائل الذين لمعوا في العلم، ونبغوا في الفضل، وقد لاحظت جملة مما استوعبه من محاضراتي في أصول الفقه، في هذا الجزء من كتابه (مباني الاستنباط) فألفيته غايةً في الدقة، وآية في الضبط، وطراوة البيان، وأترقب أن تبقى الحوزة العلمية بأمثاله من العلماء العاملين، حاملةً لواء العلم، حاميةً شريعة سيد المرسلين.
كما وأرجو الله (تبارك وتعالى) أن يُبوءه في مستقبل أيامه دستَ المرجعية الدينية، بما يجعله مثالاً يقتدى به في الصلاح والرشاد والورع والسداد ".
وبالمستوى الذي كان عليه السيد الكوكبي (قده) تلميذاً، كانَ كذلك أستاذاً أيضاً، حيث شرع إلى جانب دراسته في تدريس كتب السطح العالي الفقهية والأصولية والحكمية، حتى أصبحَ من مبرزي المدرسين في حوزة النجف المباركة، فتزاحمَ حوله الطلاب، وكثر المستفيدون منه، بالمستوى الذي ضاقَ بهم محل درسه.
فما كان من أستاذه السيد الحكيم (قده) بعد اطلاعه على ذلك، إلا أن أمره بنقل درسه إلى مسجد عمران، وهو المسجد الذي كان نفس السيد الحكيم يدرس فيه، وبالرغم من سعة المسجد إلا أنه ضاق بتلامذة السيد الكوكبي وطلابه.
وهكذا بقي في النجف الأشرف طالباً ومدرساً، لمدة عشرين سنة، حتى اضطرته الأوضاع المأساوية لمغادرتها، فغادرها مكرهاً واستقرَّ في مدينة قم المقدسة.
وبدأَ فيها بتدريس الخارج فقهاً [متخذا العروة الوثقى محوراً لدرسه وأنهى العبادات ثم شرع في خارج المكاسب، وكان له درس خاص يحضر بضع نفر في القضاء والشهادات، وفي الأصول درّس ما لا يقل عن دورتين كاملتين]، واحتفَّ به طلاب العلم، وتخرجَ جمعٌ من العلماء على يديه.
[من تلامذته حضرات آيات الله وحجج الإسلام وأصحاب الفضيلة:
في السطوح: المرحوم الشيخ محمد علي المراغي، الشيخ يحيى الفلسفي الشيرازي، الشيخ غدير علي مميز الشهرضائي، الشيخ عبد الرسول القمي، السيد علي شرف الدين الباكستاني.
ومن تلامذته في البحث الخارج : المرحوم الشيخ علي المحسني الخوئي، السيد علي الحسيني الصدر، الشيخ علي المروّجي القزويني، الشيخ محمد رضا المامقاني، المرحوم السيد محمد رضا الأعرجي، الشيخ المروّج الخوئي، الشيخ هاشمبور، الشيخ علي أكبر الوحيدي، الشيخ حسن الرميتي العاملي، السيد محمد حسين الكشميري، السيد محمد كاظم نجل المرجع السيد محمد الشاهرودي، السيد تقي الحسيني الكركاني، المرحوم الشيخ محمود الأركاني، السيد ضياء الدين مجد، السيد مرتضى الغياثي، المرحوم السيد صالح الحكيم، المرحوم الشيخ عبد الرحيم الرحيمي الشاهرودي.
وممن تتلمذ عنده من طلبة القطيف: السيد منير الخبّاز، الشيخ مهدي المصلي، الشيخ حلمي السنان، الشيخ ضياء آل سنبل، الشيخ حسين البدر، الشيخ عبد الله درويش التاروتي، الشيخ منصور الجشي]
مجلسه العلمي:
كما كان – لشدة تعلقه بالعلم، واهتمامه بتربية الطلاب –يعقد مجلساً علمياً بعد صلاة المغرب من كل ليلة، فيجتمع لديه أرباب الفضل، يسألونه فيجيب، أو يسألهم فيجيبون، ثم يأخذ بمناقشتهم والإشكال عليهم، من أجل تربيتهم وصقل ملكاتهم.
[وكان هذا المجلس محلاً لاستفادة تلامذته وغيرهم.
يقول الشيخ نزار آل سنبل حفظه الله في وصف المجلس العلمي للسيد الكوكبي قدس سره: كان مجلسه مجلس علم وأدب يحضر فيه كثير من أهل العلم والفضل، فإن طرحت مسألة من أحد الحاضرين أشار للموجودين بإبداء آرائهم فيها، وإن لم يطرح أحد مسألة ابتدأ هو بطرح مسألة وفتح المجال للمساجلات العلمية والمطارحات الفكرية فيبدأ النقاش والإشكال والجواب وهو يتابع ما يقال إلى أن يقفوا من أنفسهم أو يفصل بين المتنازعين برأيه وحجته ويبتسم بابتسامته العذبة الحانية التي تشعر منها روح الأبوة.
وقال لي في جلسة من الجلسات: بودي لو يتسنى لي الأمر أن أنتخب مجموعة من الطلبة وأسكنهم في مدرسة خاصة ونزودهم بما يحتاجون من أكل وشرب ولباس ونشترط عليهم عدم الأكل من خارجها -وكأنه قال عدم الخروج منها الا الى الدرس أو قال عدم الخروج منها ويكون درسهم داخلها والأساتذة من طرفنا- ونطلب منهم الجد والاشتغال والتحصيل حتى نخرّج علماء مأمونين في المستقبل للمستقبل.
وكان يضرب مثلاً ويقول: المزارع والفلاح يخزن بعض الثمار من بعض المنتوجات كالقرع والكوسة ويربيه ويكبره ليكون البذر الذي داخله للزرع، فهذا النحو لا يجعله للأكل بل ليستفيد منه في الزراعة ويكون ذا مواصفات خاصة فنحن أيضاً نريد ذلك.
وكأنه يأسف لعدم قدرته على القيام بمثل ذلك بسبب بعض الأوضاع.
خواطر من بعض من عاشره:
-يقول الشيخ نزار آل سنبل حفظه الله من الأمور الجميلة التي لاحظتها فيه: اذا صُبّ الشاي للحاضرين من طرف الخادم يطرق السيد الراحل البابَ الذي يطل على المنزل - لأن جلوسه دائماً عنده ومغطى بستارة – وربما كانوا يعرفون وقت موعد شربه للشاي فيأتون له بشاي في استكانة عراقية فيطرقون الباب ويمد يده تحت الستارة ويأخذ استكانة الشاي ويقول: أنا أحب هذه الاستكانة لأنها من النجف.
وكان يقول لنا: أنا أحبكم أهل القطيف لولائكم.
-وقال بعض تلامذته: كان آية في التواضع وغاية في الرقة، وحينما تدخل عليه يقف بكل إجلال وإكبار لك ويستقبلك خير استقبال، وبمجرد أن يعرف أنك قطيفي تدمع عينه ويقول أنا أحبكم فأنتم نواة الولاية وأرضكم طيبة لم تفتح قسراً، ووفدكم أول وفد شهد الولاية الثالثة، سبقتم العالم بتشيعكم ولم يمر على بلدكم التسنن أبداً والفضل لكم في تشيعنا.]
- ويقول السيد ضياء الخبّاز حفظه الله: تشرفتُ بزيارته مراراً وتكراراً، فوجدته سيداً جليل القدر، عظيم المهابة، جميل الأخلاق، محباً للعلم، مقدّراً لأهله، وكان لشدة تواضعه يحتوي كل من يدخل عليه، ويشعره بقربه منه، حتى أنه لا يجد كلفة في طرح أي مسألة عليه.
[-ومما نقله بعضهم: أن السيد الكوكبي قدس سره كان يشترط على من يريد التعمم عنده شرطين: أن يكون عمله وجهده ووقته ملكاً لصاحب العصر والزمان عجّل الله فرجه، وأن لا يدعو إلى غير ولاية محمد وآل محمد...فمن يقبل بهما بارك له ذلك وألبسه العمامة وإلا اعتذر.
مما كُتب عنه:
في معجم رجال الفكر والأدب في النجف الأشرف: عالم فاضل مجتهد جليل، من أساتذة الفقه والأصول...وهو على جانب كبير من التهذيب والأخلاق والورع والتقوى والتواضع، له تحقيقات وتعليقات فقهية وأصولية وأخلاقية وفلسفية والتفسير، انتقل إلى مدينة قم واشتغل بالتدريس والبحث ولم يزل عليه، وهو من المعروفين المشار إليهم بالفضل والعلم.
مؤلفاته المطبوعة:
1-مباني الاستنباط، وهو تقريرات أصول لبحث أستاذه المحقق الخوئي قدس سره، يقع في 4 مجلدات طُبع منها اثنان، أحدهما في القطع والظن، والآخر في الاستصحاب والتعارض والاجتهاد والتقليد.
2-توضيح المسائل، رسالته العملية باللغة الفارسية.
3-منهاج المتقين، رسالته العملية باللغة العربية.
4-مناسك الحج.
ومن المخطوطات: الاجتهاد والتقليد، حاشية المكاسب، حاشية العروة الوثقى، كتاب الطهارة، كتاب الحج، تقريرات الفقه للسيد الخوئي وتشتمل على البحوث التالية: (مقدار من البيع، الخيارات، الطهارة، أكثر الصلاة، الرضاع)، تقرير درس التفسير للسيد الخوئي.]
مرجعيته:
لما توفي أستاذه المحقق الخوئي (قده) برزَ إسمه كواحدٍ من المهيئين للزعامة والمرجعية، فطبعَ رسالته العملية، وانتشر تقليده في أوساط الأتراك وأهل تبريز، غيرَ أنَّ الأجل لم يمهله كثيراً، فابتلي بالضعف والمرض في آخر عمره الشريف، حتى توفي في مساء يوم الإثنين، الموافق لتأريخ السادس عشر من شهر ذي القعدة، سنة ألف وأربعمائة وستة وعشرين من الهجرة النبوية الشريفة.
ولا زلتُ أتذكر أنَّ سيدي الأستاذ، سماحة آية الله العظمى، السيد محمد صادق الروحاني دام ظله، في يوم الثلاثاء، قد اختتم درسه بالرواية الشريفة: "إذا ماتَ العالم ثلم في الإسلام ثلمة"، ثم تحدث في كلمةٍ مختصرة عن سماحة السيد الكوكبي، وأفاد بأنه ممن وفقهم الله تعالى لخدمة العلم والشريعة طوال حياتهم، غير أنه كان عالماً مجهول القدر.
ثم دعا الحاضرين من طلبته للذهاب إلى بيت السيد الراحل، تقديراً لمقامه العلمي، وتسلية لأهله، بعد أن أعلنَ التعطيل في يوم الأربعاء، حداداً على رحيله المؤلم، وتعظيماً لجلالة شأنه.
[وشيّع السيد الراحل وحضر تشييعه الفقهاء والعلماء، وصلى عليه المرجع الكبير آية الله العظمى الميرزا جواد التبريزي قدس سره، ودفن في مقبرة أبو حسين في قم المقدسة.
فرحم الله من قرأ لهذا العالم الجليل سورة الفاتحة مع الصلاة على محمد وآله]
ــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: بعضٌ من المكتوب مقتبس مما سطّره سماحة العلامة السيد ضياء الخبّاز في كتابه (دوحة من جنة الغري) وقد أضفنا كثيراً إلى الترجمة وجعلناه بين المعكوفين، واستفدنا من كتيبٍ عن حياة السيد الراحل طُبع في حياته وبعض السماعيات والمكتوبات.
كتبها: محمد جعفر الزاكي
(1345 - 1426 هـ)
وكانَ ممن حازَ أعلى الرتبِ السيدُ الفَذُ الفقيهُ "الكوكبي"
أستاذُهُ الخُوئيُ فيهِ أَملاَّ بأنْ يكونَ مرجعاً بينَ الملا
فصارَ مرجعاً كما تنبى كأنهُ قد استشفَ الغيبا
هو سماحة آية الله العظمى، الفقيه المحقق، والأصولي المدقق، المرجع الديني المعظّم، السيد أبو القاسم، نجل العالم الرباني السيد علي أصغر الباغميشي الكوكبي (طيب الله تربته، ورزقنا شفاعته).
وُلدَ قدس سره في منطقة (باغميشة) التابعة لمحافظة (تبريز)، سنة ألف وثلاثمائة وخمسة وأربعين من الهجرة النبوية الشريفة، ولم يمكث في بلده إلا قليلاً حتى غادرها برفقة والده المقدس إلى قم المقدسة، وفيها تعلم القرآن الكريم، غير أنَّ الشيخ عبد الكريم الحائري (قده) مؤسس الحوزة العلمية في قم المشرفة، قد طلبَ من والد السيد الكوكبي (قده) أن يعود إلى منطقته ويمكث فيها مرشداً ومعلماً؛ لشدة حاجة أهلها إليه، فرجعَ إليها مع كل أفراد عائلته، وهناك نشأَ السيد الكوكبي (قده)، وعند أساتذتها أخذَ مقدمات العلوم، [وقد درس كثيراً من تلك المتون عند العلامة الجليل الميرزا فرج الله التبريزي حيث أخذ عنده: جامع المقدمات، وشرح السيوطي، والمغني، والمطوّل، والمعالم.]
غيرَ أنَّ الطموح للرقي العلمي الذي كان يعيشه السيد الكوكبي جعله يعيد التفكير في الرجوع إلى قم المقدسة، فرجّحَ له والده المقدس ذلك، نظراً لتواجد عمه وعمته هناكَ مِن ناحيةٍ، ووجود علاقة وثيقة جداً بين أبيه وبين أستاذ الفقهاء السيد الحجة الكوهكمري (قده) من ناحيةٍ أخرى، فيممَ بوجهه شطر حوزة قم المقدسة، ليكون تحت رعاية وإشراف السيد الكوهكمري في سائر شؤونه العلمية والحياتية.
وهناك أخذَ بالحضور على المبرزين من أساتذتها، في مرحلتي السطوح المتوسطة والسطوح العليا، [ومن أساتذته في هذه المرحلة:
1-آية الله الميرزا حسن الصادقي التبريزي رحمه الله، حضر لديه شرح اللمعة.
2-آية الله الميرزا محمد المجاهد التبريزي رحمه الله، حضر لديه فرائد الأصول.
3-آية الله العظمى السيد محمد الداماد رحمه الله، حضر لديه كامل كتابي المكاسب والكفاية.
4-آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي رحمه الله، حضر لديه منظومة السبزواري.
ثم حضر أبحاث الخارج على يد ركني الحوزة آنذاك: السيد البروجردي والسيد الحجة الكوهكمري (قدهما)، فحضر لدى السيد البروجردي في الفقه ولدى السيد الحجة في الفقه والأصول عدة سنوات واستفاد منهما كثيراً، وكان إلى جانب ذلك مشتغلاً بالتدريس، فدرّس المطوّل وشرح اللمعة وشرح التجريد والرسائل والمنظومة]
الهجرة إلى النجف الأشرف:
ولما كانَ منهوماً في طلبه للعلوم والمعارف، أخذَ يحثّ الخطى نحو حوزة العلم الكبرى، مشتاقاً لمجاورة باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، [فسافر إليها سفرة استطلاعية استمرت ستة أشهر، حضر خلالها دروس أعاظم أساتذتها وأكابر فقهائها، وهم:
1-آية الله العظمى السيد عبد الهادي الشيرازي قدس سره
2- آية الله العظمى السيد محسن الحكيم قدس سره
3- آية الله العظمى السيد محمود الشاهرودي قدس سره
4- آية الله العظمى الميرزا باقر الزنجاني قدس سره
5-آية الله العظمى الشيخ حسين الحلي قدس سره
6- آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره
ثم لما وجد أن أمور إقامته مع عائلته في النجف الأشرف متيسرة عاد لإيران من أجل إحضار عائلته وبعد عدة أشهر هاجر إلى النجف الأشرف و] ألقى بعصاه سنة 1374 هـ، [وانتخب اثنين من الأساتذة السابق ذكرهم] فحضر في الفقه عند السيد الحكيم، وفي الفقه والأصول عند المحقق الخوئي (قدهما)، وكانَ مغرماً بدرس الأخير منهما، حتى نُقل في أحواله: بأنه لم يفته أيُ درس من دروسه - حتى التعطيلي منها - مهما كانت ظروفه وأحواله.
وقد اهتمَّ بتقرير الدروس التي حضرها، وقامَ بعرضها على أستاذه المحقق الخوئي (قده) فأمضاها وقرظها، وقد جاء في تقريظه الأول المؤرخ بسنة 1376 هـ: " فهذه نبذة من المباحث الأصولية، التي كتبها جناب العلامة، صفوة العلماء العاملين، قرة عيني الأعز، السيد أبو القاسم التبريزي الباغميشة (دامت تأييداته) تقريراً لأبحاثي التي ألقيتها في مجلس الدرس، وقد لاحظته فوجدته بالمراد وافياً، وفي أداء المقصود كافياً، مع التحفظ على ترك الإيجاز المخل والإطناب الممل، فلله تعالى دره، وعليه سبحانه أجره، وأسأل الله (جلَّ شأنه) الذي منَّ عليه، فجعله ركناً من أركان الفضل والفضيلة، أن يوفقه لما يرضيه، ويجعل مستقبل أمره خيراً من ماضيه، ويكثر في العلماء أمثاله ".
وقال في تقريظه المؤرخ بسنة 1386 هـ: " العلامة الحجة، قرة عيني العزيز، السيد أبو القاسم الكوكبي (دامت تأييداته)، وقد حضر أبحاثنا الفقهية والأصولية، ومحاضراتنا في التفسير، حضور تمحض وتحقيق، فأصبح من القلائل الذين لمعوا في العلم، ونبغوا في الفضل، وقد لاحظت جملة مما استوعبه من محاضراتي في أصول الفقه، في هذا الجزء من كتابه (مباني الاستنباط) فألفيته غايةً في الدقة، وآية في الضبط، وطراوة البيان، وأترقب أن تبقى الحوزة العلمية بأمثاله من العلماء العاملين، حاملةً لواء العلم، حاميةً شريعة سيد المرسلين.
كما وأرجو الله (تبارك وتعالى) أن يُبوءه في مستقبل أيامه دستَ المرجعية الدينية، بما يجعله مثالاً يقتدى به في الصلاح والرشاد والورع والسداد ".
وبالمستوى الذي كان عليه السيد الكوكبي (قده) تلميذاً، كانَ كذلك أستاذاً أيضاً، حيث شرع إلى جانب دراسته في تدريس كتب السطح العالي الفقهية والأصولية والحكمية، حتى أصبحَ من مبرزي المدرسين في حوزة النجف المباركة، فتزاحمَ حوله الطلاب، وكثر المستفيدون منه، بالمستوى الذي ضاقَ بهم محل درسه.
فما كان من أستاذه السيد الحكيم (قده) بعد اطلاعه على ذلك، إلا أن أمره بنقل درسه إلى مسجد عمران، وهو المسجد الذي كان نفس السيد الحكيم يدرس فيه، وبالرغم من سعة المسجد إلا أنه ضاق بتلامذة السيد الكوكبي وطلابه.
وهكذا بقي في النجف الأشرف طالباً ومدرساً، لمدة عشرين سنة، حتى اضطرته الأوضاع المأساوية لمغادرتها، فغادرها مكرهاً واستقرَّ في مدينة قم المقدسة.
وبدأَ فيها بتدريس الخارج فقهاً [متخذا العروة الوثقى محوراً لدرسه وأنهى العبادات ثم شرع في خارج المكاسب، وكان له درس خاص يحضر بضع نفر في القضاء والشهادات، وفي الأصول درّس ما لا يقل عن دورتين كاملتين]، واحتفَّ به طلاب العلم، وتخرجَ جمعٌ من العلماء على يديه.
[من تلامذته حضرات آيات الله وحجج الإسلام وأصحاب الفضيلة:
في السطوح: المرحوم الشيخ محمد علي المراغي، الشيخ يحيى الفلسفي الشيرازي، الشيخ غدير علي مميز الشهرضائي، الشيخ عبد الرسول القمي، السيد علي شرف الدين الباكستاني.
ومن تلامذته في البحث الخارج : المرحوم الشيخ علي المحسني الخوئي، السيد علي الحسيني الصدر، الشيخ علي المروّجي القزويني، الشيخ محمد رضا المامقاني، المرحوم السيد محمد رضا الأعرجي، الشيخ المروّج الخوئي، الشيخ هاشمبور، الشيخ علي أكبر الوحيدي، الشيخ حسن الرميتي العاملي، السيد محمد حسين الكشميري، السيد محمد كاظم نجل المرجع السيد محمد الشاهرودي، السيد تقي الحسيني الكركاني، المرحوم الشيخ محمود الأركاني، السيد ضياء الدين مجد، السيد مرتضى الغياثي، المرحوم السيد صالح الحكيم، المرحوم الشيخ عبد الرحيم الرحيمي الشاهرودي.
وممن تتلمذ عنده من طلبة القطيف: السيد منير الخبّاز، الشيخ مهدي المصلي، الشيخ حلمي السنان، الشيخ ضياء آل سنبل، الشيخ حسين البدر، الشيخ عبد الله درويش التاروتي، الشيخ منصور الجشي]
مجلسه العلمي:
كما كان – لشدة تعلقه بالعلم، واهتمامه بتربية الطلاب –يعقد مجلساً علمياً بعد صلاة المغرب من كل ليلة، فيجتمع لديه أرباب الفضل، يسألونه فيجيب، أو يسألهم فيجيبون، ثم يأخذ بمناقشتهم والإشكال عليهم، من أجل تربيتهم وصقل ملكاتهم.
[وكان هذا المجلس محلاً لاستفادة تلامذته وغيرهم.
يقول الشيخ نزار آل سنبل حفظه الله في وصف المجلس العلمي للسيد الكوكبي قدس سره: كان مجلسه مجلس علم وأدب يحضر فيه كثير من أهل العلم والفضل، فإن طرحت مسألة من أحد الحاضرين أشار للموجودين بإبداء آرائهم فيها، وإن لم يطرح أحد مسألة ابتدأ هو بطرح مسألة وفتح المجال للمساجلات العلمية والمطارحات الفكرية فيبدأ النقاش والإشكال والجواب وهو يتابع ما يقال إلى أن يقفوا من أنفسهم أو يفصل بين المتنازعين برأيه وحجته ويبتسم بابتسامته العذبة الحانية التي تشعر منها روح الأبوة.
وقال لي في جلسة من الجلسات: بودي لو يتسنى لي الأمر أن أنتخب مجموعة من الطلبة وأسكنهم في مدرسة خاصة ونزودهم بما يحتاجون من أكل وشرب ولباس ونشترط عليهم عدم الأكل من خارجها -وكأنه قال عدم الخروج منها الا الى الدرس أو قال عدم الخروج منها ويكون درسهم داخلها والأساتذة من طرفنا- ونطلب منهم الجد والاشتغال والتحصيل حتى نخرّج علماء مأمونين في المستقبل للمستقبل.
وكان يضرب مثلاً ويقول: المزارع والفلاح يخزن بعض الثمار من بعض المنتوجات كالقرع والكوسة ويربيه ويكبره ليكون البذر الذي داخله للزرع، فهذا النحو لا يجعله للأكل بل ليستفيد منه في الزراعة ويكون ذا مواصفات خاصة فنحن أيضاً نريد ذلك.
وكأنه يأسف لعدم قدرته على القيام بمثل ذلك بسبب بعض الأوضاع.
خواطر من بعض من عاشره:
-يقول الشيخ نزار آل سنبل حفظه الله من الأمور الجميلة التي لاحظتها فيه: اذا صُبّ الشاي للحاضرين من طرف الخادم يطرق السيد الراحل البابَ الذي يطل على المنزل - لأن جلوسه دائماً عنده ومغطى بستارة – وربما كانوا يعرفون وقت موعد شربه للشاي فيأتون له بشاي في استكانة عراقية فيطرقون الباب ويمد يده تحت الستارة ويأخذ استكانة الشاي ويقول: أنا أحب هذه الاستكانة لأنها من النجف.
وكان يقول لنا: أنا أحبكم أهل القطيف لولائكم.
-وقال بعض تلامذته: كان آية في التواضع وغاية في الرقة، وحينما تدخل عليه يقف بكل إجلال وإكبار لك ويستقبلك خير استقبال، وبمجرد أن يعرف أنك قطيفي تدمع عينه ويقول أنا أحبكم فأنتم نواة الولاية وأرضكم طيبة لم تفتح قسراً، ووفدكم أول وفد شهد الولاية الثالثة، سبقتم العالم بتشيعكم ولم يمر على بلدكم التسنن أبداً والفضل لكم في تشيعنا.]
- ويقول السيد ضياء الخبّاز حفظه الله: تشرفتُ بزيارته مراراً وتكراراً، فوجدته سيداً جليل القدر، عظيم المهابة، جميل الأخلاق، محباً للعلم، مقدّراً لأهله، وكان لشدة تواضعه يحتوي كل من يدخل عليه، ويشعره بقربه منه، حتى أنه لا يجد كلفة في طرح أي مسألة عليه.
[-ومما نقله بعضهم: أن السيد الكوكبي قدس سره كان يشترط على من يريد التعمم عنده شرطين: أن يكون عمله وجهده ووقته ملكاً لصاحب العصر والزمان عجّل الله فرجه، وأن لا يدعو إلى غير ولاية محمد وآل محمد...فمن يقبل بهما بارك له ذلك وألبسه العمامة وإلا اعتذر.
مما كُتب عنه:
في معجم رجال الفكر والأدب في النجف الأشرف: عالم فاضل مجتهد جليل، من أساتذة الفقه والأصول...وهو على جانب كبير من التهذيب والأخلاق والورع والتقوى والتواضع، له تحقيقات وتعليقات فقهية وأصولية وأخلاقية وفلسفية والتفسير، انتقل إلى مدينة قم واشتغل بالتدريس والبحث ولم يزل عليه، وهو من المعروفين المشار إليهم بالفضل والعلم.
مؤلفاته المطبوعة:
1-مباني الاستنباط، وهو تقريرات أصول لبحث أستاذه المحقق الخوئي قدس سره، يقع في 4 مجلدات طُبع منها اثنان، أحدهما في القطع والظن، والآخر في الاستصحاب والتعارض والاجتهاد والتقليد.
2-توضيح المسائل، رسالته العملية باللغة الفارسية.
3-منهاج المتقين، رسالته العملية باللغة العربية.
4-مناسك الحج.
ومن المخطوطات: الاجتهاد والتقليد، حاشية المكاسب، حاشية العروة الوثقى، كتاب الطهارة، كتاب الحج، تقريرات الفقه للسيد الخوئي وتشتمل على البحوث التالية: (مقدار من البيع، الخيارات، الطهارة، أكثر الصلاة، الرضاع)، تقرير درس التفسير للسيد الخوئي.]
مرجعيته:
لما توفي أستاذه المحقق الخوئي (قده) برزَ إسمه كواحدٍ من المهيئين للزعامة والمرجعية، فطبعَ رسالته العملية، وانتشر تقليده في أوساط الأتراك وأهل تبريز، غيرَ أنَّ الأجل لم يمهله كثيراً، فابتلي بالضعف والمرض في آخر عمره الشريف، حتى توفي في مساء يوم الإثنين، الموافق لتأريخ السادس عشر من شهر ذي القعدة، سنة ألف وأربعمائة وستة وعشرين من الهجرة النبوية الشريفة.
ولا زلتُ أتذكر أنَّ سيدي الأستاذ، سماحة آية الله العظمى، السيد محمد صادق الروحاني دام ظله، في يوم الثلاثاء، قد اختتم درسه بالرواية الشريفة: "إذا ماتَ العالم ثلم في الإسلام ثلمة"، ثم تحدث في كلمةٍ مختصرة عن سماحة السيد الكوكبي، وأفاد بأنه ممن وفقهم الله تعالى لخدمة العلم والشريعة طوال حياتهم، غير أنه كان عالماً مجهول القدر.
ثم دعا الحاضرين من طلبته للذهاب إلى بيت السيد الراحل، تقديراً لمقامه العلمي، وتسلية لأهله، بعد أن أعلنَ التعطيل في يوم الأربعاء، حداداً على رحيله المؤلم، وتعظيماً لجلالة شأنه.
[وشيّع السيد الراحل وحضر تشييعه الفقهاء والعلماء، وصلى عليه المرجع الكبير آية الله العظمى الميرزا جواد التبريزي قدس سره، ودفن في مقبرة أبو حسين في قم المقدسة.
فرحم الله من قرأ لهذا العالم الجليل سورة الفاتحة مع الصلاة على محمد وآله]
ــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: بعضٌ من المكتوب مقتبس مما سطّره سماحة العلامة السيد ضياء الخبّاز في كتابه (دوحة من جنة الغري) وقد أضفنا كثيراً إلى الترجمة وجعلناه بين المعكوفين، واستفدنا من كتيبٍ عن حياة السيد الراحل طُبع في حياته وبعض السماعيات والمكتوبات.
كتبها: محمد جعفر الزاكي