صلاح الدين الأيوبي
اقتصر كثير من الناس في تقييم صلاح الدين الأيوبي من خلال كونه فاتحاً لبيت المقدس وبطل معركة حطين، واكتفوا بذلك متغافلين عن تقييمه كحاكم له مساوئ وسلبيات أخرى ربما تدعو المنصف إلى أن يعيد النظر في نظرته المثالية إلى صلاح الدين، وحيث إن كثيراً من الناس يفتخرون به، ويعدونه واحداً من الأبطال الذين قل أن يجود الزمان بمثلهم، فإني سأذكر بعض المآخذ التي عيبت عليه، ومنها:
1- كثرة حروبه مع المسلمين وكثرة سفكه لدمائهم:
أراد صلاح الدين أن يوسّع مناطق حُكْمه، ويبسط نفوذه وسلطانه على جميع البلاد الإسلامية، وحيث إن هذه الرغبة لا تتم إلا بالحروب وسفك الدماء، فإنه شنَّ حروباً متواصلة في المناطق التي استطاع الوصول إليها، وكان هدفه الأساس هو بسط نفوذه وتوسعة مناطق مُلْكه من دون أن يراعي أيّ قيمة للدماء المحرّمة التي سيسفكها للوصول إلى أهدافه.
قال ابن العماد الحنبلي: وأول ما فتح الدّيار المصرية، والحجاز، ومكّة، والمدينة، واليمن من زبيد إلى حضرموت، متّصلاً بالهند، ومن الشام: دمشق، وبعلبك، وحمص، وبانياس، وحلب، وحماة. ومن الساحل: بلاد القدس، وغزّة، وتل الصافية، وعسقلان، ويافا، وقيسارية، وحيفا، وعكّا، وطبرية، والشّقيف، وصفد، وكوكب، والكرك، والشّوبك، وصيدا، وبيروت، وجبلة، واللّاذقية، والشّغر، وصهيون، وبلاطنس، ومن الشرق حرّان، والرّها، والرّقّة، ورأس عين، وسنجار، ونصيبين، وسروج، وديار بكر، وميّافارقين، وآمد، وحصونها، وشهرزور، ويقال: إنه فتح ستين حصناً، وزاد على نور الدّين بمصر، والمغرب، والحجاز، واليمن، والقدس، والساحل، وبلاد الفرنج، وديار بكر، ولو عاش لفتح الدّنيا شرقاً وغرباً، وبعداً وقرباً، ولم يبلغ ستين سنة[1] .
قلت: جميع هذه الحروب التي سمّاها بعضهم فتوحات قد سُفكت فيها كثير من الدماء المحرّمة، وسُلبت أو أتلفت فيها كثير من الأموال المحترمة؛ لأنه من الواضح جدًّا أن تلك المناطق التي سيطر عليها صلاح الدين لم يتمكّن من إخضاعها وإدخالها في سلطانه إلا بالحرب وسفك الدماء، فهل يرى المعجبون بصلاح الدين أي مبرّر شرعي لسفك دماء المسلمين التي ربما صاحَبَها سلب الأموال المحترمة وهتك الأعراض؟!
وبعض الحوادث دلّت على أن صلاح الدين كان يستخدم الأساليب القذرة للتغلب على خصومه، كما حدث في حربه مع السودان، فإنه لما عجز عن دحرهم ذهب إلى محلّتهم (المنصورة)، فأحرقها على أموالهم وأولادهم وحرمهم.
قال ابن الأثير: فغضب السودان الذين بمصر لقتل مؤتمن الخلافة[2] حميّة، ولأنه كان يتعصّب لهم، فحشدوا وجمعوا، فزادت عدّتهم على خمسين ألفاً، وقصدوا حرب الأجناد الصلاحية، فاجتمع العسكر أيضاً، وقاتلوهم بين القصرين، وكثر القتل في الفريقين، فأرسل صلاح الدين إلى محلّتهم المعروفة بالمنصورة، فأحرقها على أموالهم وأولادهم وحرمهم، فلما أتاهم الخبر بذلك ولّوا منهزمين، فركبهم السيف، وأُخذت عليهم أفواه السكك، فطلبوا الأمان بعد أن كثر فيهم القتل، فأجيبوا إلى ذلك، فأُخرجوا من مصر إلى الجيزة، فعبر إليهم شمس الدولة تورانشاه أخو صلاح الدين الأكبر في طائفة من العسكر، فأبادهم بالسيف، ولم يبق منهم إلا القليل الشريد[3] .
وكل من يدّعي أن دوافع صلاح الدين من كل تلك الحروب هي خدمة الإسلام والمسلمين فعليه أن يثبت ذلك بالأدلة الصحيحة، بل إن ما قاله ابن العديم يدل على أن غاية صلاح الدين هي بسط نفوذه على البلاد لأجل مآربه الخاصة، فقد قال في (زبدة الحلب): وخاف صلاح الدين من نور الدين أن يدخل مصر فيأخذها منهم، فشرع في تحصيل مملكة أخرى لتكون عدّة له بحيث إن نور الدين إن غلبه على الديار المصرية سار هو وأهله إليها وأقاموا بها، فسيَّر أخاه الأكبر تورانشاه بإذن نور الدين له في ذلك، وسيَّره قاصداً عبد النبي بن مهدي، وكان دعا إلى نفسه، وقطع خطبة بني العباس، فمضى إليها وفتح زبيد وعدن، ومعظم بلاد اليمن[4] .
والغريب أن ابن كثير وصفه بأنه رقيق القلب سريع الدمعة عند سماع الحديث، وأنه كان كثير التعظيم لشرائع الدين[5] ، فلا أدري كيف ينسجم هذا مع تهاونه في سفك دماء المسلمين التي حُرْمتها عند الله من أعظم الحرمات؟!
2- أن صلاح الدين سلَّم أكثر مدن فلسطين وغيرها للصليبيين:
يقول الدكتور حسين مؤنس: ثم دخلوا في مفاوضات مع صلاح الدين انتهت بعقد صلح (الرملة)، الذي نصّ على أن يترك صلاح الدين للصليبيين شريطاً من الساحل، يمتد من صور إلى يافا، وبهذا العمل عادت مملكة بيت المقدس - التي انتقلت إلى طرابلس- إلى القوة بعد أن كانت قد انتهت، وتمكّن ملوكها من استعادة الساحل حتى بيروت...
إلى أن قال: وهنا وبعد عقد صلح الرملة اعتبر فيليب أغسطس أن مهمّته قد انتهت، وأنه برَّ بقسمه «أن يفتح الطريق إلى بيت المقدس»، وأقلع إلى بلاده من ميناء عكا في 8 يونيو 1192م. أما ريتشارد فقد بقي في بلاد الشام وأتمَّ الاستيلاء على الموانئ الواقعة جنوب عكا حتى عسقلان، ثم عقد صداقة مع صلاح الدين الذي اعتبره من أعاظم ملوك المسلمين، وأتمَّ حجَّه إلى بيت المقدس ووضع يده على قبرص... وبذلك تكون معظم المكاسب التي حقَّقها صلاح الدين - فيما عدا استعادته لبيت المقدس - قد ضاعت بسبب تنافس الأمراء الأيوبيين واختلاف كلمتهم[6] .
وقال المقريزي: وعاد إلى القدس، وعقد الهدنة بينه وبين الفرنج مدّة ثلاث سنين وثلاثة أشهر، أوّلها حادي عشر شعبان، على أنّ للفرنج من يافا إلى عكا إلى صور وطرابلس وأنطاكية، ونودي بذلك، فكان يوماً مشهوداً[7] .
وقال عماد الدين الكاتب الأصفهاني الذي كان معاصراً لصلاح الدين: وجعل لهم من يافا إلى قيسارية، إلى عكاء إلى صور، وأبدوا بما تركوه من البلاد التي كانت معهم الغبطة والسرور، وأدخلوا في الصلح طرابلس وأنطاكية والأعمال الدانية والنائية[8] .
قلت: إن صلاح الدين لا يخلو من أمرين: إما أنه كان عاجزاً عن إخراج الصليبيين من سائر مدن الشام وفلسطين، ولذلك عقد معهم صلحاً سلَّمهم بمقتضاه كثيراً من مدن الشام وفلسطين، فحينئذ لا بد أن يعلم الجميع أن التهويلات التي تُذكر لبطولات صلاح الدين كلها مُبالَغ فيها وغير صحيحة.
وإما أنه كان قادراً على إخراج الصليبيين من جميع بلاد المسلمين، ولكنه مع ذلك آثر عقد الصلح معهم وتسليمهم بلاداً كثيرة من الشام وفلسطين، فلا شك في أن هذا الفعل يعتبر خيانة واضحة للإسلام والمسلمين.
3- تقديم صلاح الدين مصلحته الخاصة على مصلحة الأمة:
وقف صلاح الدين عدّة مواقف كان يراعي فيها مصلحته الخاصّة على حساب مصلحة الأمّة.
منها: عدم رغبته في استئصال الفرنج لئلا تؤخذ منه مصر.
قال أبو شامة: قال ابن الأثير: وكان نور الدين قد شرع بتجهيز المسير إلى مصر لأخذها من صلاح الدين؛ لأنه رأى منه فتوراً عن غزو الفرنج من ناحيته، فأرسل إلى الموصل وديار الجزيرة وديار بكر يطلب العساكر ليتركها بالشام لمنعه من الفرنج؛ ليسير هو بعساكره إلى مصر، وكان المانع لصلاح الدين من الغزو الخوف من نور الدين، فإنه كان يعتقد أن نور الدين متى زال عن طريقه الفرنج أخذ البلاد منه، فكان يحتمي بهم عليه، ولا يؤثر استئصالهم، وكان نور الدين لا يرى إلا الجد في غزوهم بجهده وطاقته، فلما رأى إخلال صلاح الدين بالغزو، وعلم غرضه، فتجهز للمسير إليه، فأتاه أمر الله الذي لا يُردّ[9] .
وقال ابن الأثير في حوادث سنة 567هـ: في هذه السنة جرت أمور أوجبت أن تأثّر نور الدين من صلاح الدين، ولم يُظهر ذلك، وكان سببه أن صلاح الدين يوسف بن أيوب سار عن مصر في صفر من هذه السنة إلى بلاد الفرنج غازياً، ونازل حصن الشوبك[10] ، وبينه وبين الكرك يوم، وحصره، وضيَّق على مَنْ به من الفرنج، وأدام القتال، وطلبوا الأمان، واستمهلوه عشرة أيام، فأجابهم إلى ذلك. فلما سمع نور الدين بما فعله صلاح الدين سار عن دمشق قاصداً بلاد الفرنج أيضاً؛ ليدخل إليها من جهة أخرى، فقيل لصلاح الدين: إن دخل نور الدين بلاد الفرنج وهم على هذه الحال: أنت من جانب ونور الدين من جانب، ملكها، ومتى زال الفرنج عن الطريق وأخذ ملكهم لم يبق بديار مصر مقام مع نور الدين، وإن جاء نور الدين إليك وأنت ههنا، فلا بد لك من الاجتماع به، وحينئذ يكون هو المتحكّم فيك بما شاء، إن شاء تركك، وإن شاء عزلك، فقد لا تقدر على الامتناع عليه، والمصلحة الرجوع إلى مصر. فرحل عن الشوبك عائداً إلى مصر، ولم يأخذه من الفرنج، وكتب إلى نور الدين يعتذر باختلال البلاد المصرية لأمور بلغتْه عن بعض شيعته العلويين، وأنهم عازمون على الوثوب بها، فإنه يخاف عليها من البعد عنها أن يقوم أهلها على من تخلّف بها، فيخرجوهم وتعود ممتنعة، وأطال الاعتذار، فلم يقبلها نور الدين منه، وتغيَّر عليه، وعزم على الدخول إلى مصر وإخراجه عنها[11] .
وقال في حوادث سنة 568هـ: في هذه السنة في شوال رحل صلاح الدين يوسف بن أيوب من مصر بعساكرها جميعها إلى بلاد الفرنج يريد حصر الكرك، والاجتماع مع نور الدين عليه، والاتفاق على قصد بلاد الفرنج من جهتين، كل واحد منهما في جهة بعسكره. وسبب ذلك أن نور الدين لما أنكر على صلاح الدين عوده من بلاد الفرنج في العام الماضي، وأراد نور الدين قصد مصر وأخذها منه، أرسل يعتذر، ويعد من نفسه بالحركة على ما يقرِّره نور الدين، فاستقرّت القاعدة بينهما أن صلاح الدين يخرج من مصر، ويسير نور الدين من دمشق، فأيهما سبق صاحبه يقيم إلى أن يصل الآخر إليه، وتواعدا على يوم معلوم يكون وصولهما فيه، فسار صلاح الدين عن مصر لأن طريقه أصعب وأبعد وأشق، ووصل إلى الكرك وحصره. وأما نور الدين فإنه لما وصل إليه كتاب صلاح الدين برحيله من مصر فرَّق الأموال، وحصَّل الأزواد وما يحتاج إليه، وسار إلى الكرك فوصل إلى الرقيم، وبينه وبين الكرك مرحلتان، فلما سمع صلاح الدين بقربه خافه هو وجميع أهله، واتّفق رأيهم على العود إلى مصر، وترك الاجتماع بنور الدين؛ لأنهم علموا أنه إن اجتمعا كان عزله على نور الدين سهلاً. فلما عاد أرسل الفقيه عيسى إلى نور الدين يعتذر عن رحيله بأنه كان قد استخلف أباه نجم الدين أيوب على ديار مصر، وأنه مريض شديد المرض، ويخاف أن يحدث عليه حادث الموت فتخرج البلاد عن أيديهم، وأرسل معه [من] التحف والهدايا ما يجل عن الوصف، فجاء الرسول إلى نور الدين وأعلمه ذلك، فعظم عليه وعلم المراد من العود، إلا أنه لم يُظهر للرسول تأثّراً، بل قال له: حِفْظُ مصر أهم عندنا من غيرها[12] .
وقال في حوادث 569هـ: وكان [نور الدين محمود بن زنكي] قد شرع يتجهّز للدخول إلى مصر لأخذها من صلاح الدين يوسف بن أيوب، فإنه رأى منه فتوراً في غزو الفرنج من ناحيته، وكان يعلم أنه إنما يمنع صلاح الدين من الغزو الخوف منه ومن الاجتماع به، فإنه يؤثر كون الفرنج في الطريق ليمتنع بهم على نور الدين، فأرسل إلى الموصل وديار الجزيرة وديار بكر يطلب العساكر للغزاة، وكان عزمه أن يتركها مع ابن أخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل بالشام، ويسير هو بعساكره إلى مصر، فبينما هو يتجهّز لذلك أتاه أمر الله الذي لا مردَّ له[13] .
فانظر أيها القارئ العزيز كيف أن صلاح الدين كان يهمّه بالدرجة الأساس الاحتفاظ بحكم مصر أكثر من اهتمامه بمحاربة الفرنج الصليبيين!!
4- شرب صلاح الدين للخمر:
قال الذهبي: وكان صلاح الدين شحنة دمشق، فكان يشرب الخمر، ثم تاب، وكان محبَّباً إلى نور الدين يلاعبه بالكرة[14] .
وقال كمال الدين ابن العديم: فأرسل العاضد إلى صلاح الدين، وأحضره عنده، وولَّاه الوزارة بعد عَمِّه، وخلع عليه، ولقَّبه بالملك الناصر، فاستتبَّت أحواله، وبذل المال، وتاب عن شرب الخمر، وأخذ في الجد والتشمير في أموره كلها[15] .
وقال أبو القاسم شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة: وقال ابن شدَّاد[16] : كان أسد الدين كثير الأكل، شديد المواظبة على تناول اللحوم الغليظة، تتواتر عليه التخم والخوانيق، وينجو منها بعد معاناة شدّة عظيمة، فأخذه مرض شديد، واعتراه خانوق عظيم فقتله، رحمه الله تعالى، وفُوِّض الأمر بعده إلى صلاح الدين، واستقرت القواعد، واستتبت الأحوال على أحسن نظام، وبذل الأموال، وملك الرجال، وهانت عنده الدنيا فملكها، وشكر نعمة الله تعالى عليه، فتاب عن الخمر، وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمّص بلباس الجد والاجتهاد، وما عاد عنه، ولا ازداد إلا جدًّا إلى أن توفاه الله تعالى إلى رحمته[17] .
قلت: المعلوم من حال صلاح الدين أنه كان يشرب الخمر كما شهد عليه قاضيه ومعاصره ابن شدّاد، وأما توبته فهو كلام قاله أنصاره ومحبّوه، ولعله غير صحيح، ولا سيما أن السلطة عادة ما تغري صاحبها بالفسق والمجون والترف، وتبعده عن التقشف والزهد والعبادة كما هو الملاحظ في الغالبية العظمى من الحكّام والسلاطين.
5- بعثرة المكتبات ونفائس الكتب:
قال المقريزي: وقال ابن أبي طي بعد ما ذكر استيلاء صلاح الدين على القصر: «ومن جملة ما باعوه: خزانة الكتب، وكانت من عجائب الدنيا، ويقال: إنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم من التي كانت بالقاهرة في القصر، ومن عجائبها: أنه كان فيها ألف ومائتا نسخة من تاريخ الطبري إلى غير ذلك، ويقال: إنها كانت تشتمل على ألف وستمائة ألف كتاب، وكان فيها من الخطوط المنسوبة أشياء كثيرة»[18] .
وقال ابن الأثير: وكان فيه من الكتب النفيسة المعدومة المثل ما لا يُعد، فباع [صلاح الدين] جميع ما فيه[19] .
ويقول الدكتور محمد كامل حسين في حديثه حول ضياع التراث الأدبي في العصر الفاطمي: وكانت الحياة في مصر الفاطمية كما رأينا جانباً منها تدعو إلى ازدهار الشعر وإلى كثرة ما أنتجه الشعراء في كل فن من فنون الشعر وكل موضوع من موضوعاته، ولكن هذه الموجة الفنية التي طغت على مصر، سرعان ما أبادها الأيوبيون فيما أبادوه من تراث هذا العصر الذهبي في تاريخ مصر الإسلامية، فضاع الشعر ولم يبق منه إلا اسم الشاعر أحياناً إن قُدِّر لاسمه البقاء، ونحن لا نتردّد في اتّهام الأيوبيين بجنايتهم على تاريخ الأدب المصري؛ لتعمدهم أن يمحوا كل أثر أدبي يمت للفاطميين بصلة، فقد أحرقوا كتبهم بما فيها من دواوين الشعر خوفاً من أن يكون بالشعر مديح للأئمة وهو كفر بزعمهم... فضاع أكثر شعر مصر الفاطمية بسبب هذا التعصب المذهبي[20] .
قلت: إذا كان هذا حال كتب الشعر، فما بالك بكتب العلوم الأخرى ولا سيما كتب العقيدة والفقه والحديث التي لا تتوافق مع مذهب صلاح الدين وتوجهاته.
6- ظلم صلاح الدين وجوره:
يكفي في معرفة ظلم صلاح الدين وجوره وتعسّفه في حكمه ما ذكره الدكتور حسين مؤنس الذي هو من المدافعين عن صلاح الدين، فإنه قال: وكانت مشاريعه ومطالبه متعدّدة لا تنتهي، فكانت حاجته للمال لا تنتهي أيضاً، وكان عُمّاله وجباته من أقسى خلق الله على الناس، ما مرّ ببلد تاجر إلا قصم الجُباة ظهره، وما بدت على إنسان علامة من علامات اليسار، إلا أُنذِر بعذاب من رجال السلطان، وكان الفلاحون والضعفاء معه في جُهد، ما أينعت في حقولهم ثمرة إلا تلقّفها الجباة، ولا بدت سنبلة قمح إلا استقرت في خزائن السلطان، حتى أملق الناس في أيامه، وخلّفهم على أبواب محن ومجاعات حصدت الناس حصداً[21] .
ومن ظلم صلاح الدين أيضاً ما ذكره ابن الأثير في حوادث سنة 572هـ، حيث قال: لما رحل صلاح الدين من حلب على ما ذكرناه قبلُ، قصد بلاد الإسماعيلية في المحرَّم ليقاتلهم بما فعلوه به من الوثوب عليه وإرادة قتله، فنهب بلدهم وخربه وأحرقه[22] .
ومن ظلمه أيضاً ما صنعه مع أسرة الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله آخر خلفاء الدولة الفاطمية وفيهم أطفال صغار.
قال المقريزي: ولما مات العاضد لدين الله في يوم عاشوراء سنة سبع وستين وخمسمائة، احتاط الطواشي قراقوش[23] على أهل العاضد وأولاده، فكانت عدّة الأشراف في القصور: مائة وثلاثين، والأطفال خمسة وسبعين، وجعلهم في مكان أفرد لهم خارج القصر، وجمع عمومته وعشيرته في إيوان بالقصر، واحترز عليهم، وفرّق بين الرجال والنساء لئلا يتناسلوا، وليكون ذلك أسرع لانقراضهم.
وقال: ثم قسَّم القصور، فأعطى القصر الكبير للأمراء فسكنوا فيه، وأسكن أباه نجم الدين أيوب بن شادي في قصر اللؤلؤة على الخليج، وأخذ أصحابه دور من كان يُنسب إلى الدولة الفاطمية، فكان الرجل إذا استحسن داراً أخرج منها سُكَّانها، ونزل بها.
إلى أن قال: وقال الحافظ جمال الدين يوسف اليغموري: وجدت بخط المهذّب أبي طالب محمد بن علي بن الخيمي، حدّثني الأمير عضد الدين مرهف بن مجد الدين سويد الدولة بن منقذ: أن القصر أُغلق على ثمانية عشر ألف نسمة، عشرة آلاف شريف وشريفة، وثمانية آلاف عبد وخادم وأمة ومولدة وتربية.
وقال ابن عبد الظاهر عن القصر لما أخذه صلاح الدين وأخرج من به: كان فيه اثنا عشر ألف نسمة ليس فيهم فحل، إلّا الخليفة وأهله وأولاده، ولما أخرجوا منه أسكنوا في دار المظفر، وقبض أيضاً صلاح الدين على الأمير داود بن العاضد، وكان وليّ العهد ويُنعت بالحامد لله، واعتقل معه جميع إخوته: الأمير أبو الأمانة جبريل، وأبو الفتح، وابنه أبو القاسم، وسليمان بن داود، وعبد الظاهر حيدرة بن العاضد، وعبد الوهاب بن إبراهيم بن العاضد، وإسماعيل بن العاضد، وجعفر بن أبي الظاهر بن جبريل، وعبد الظاهر بن أبي الفتوح بن جبريل بن الحافظ، وجماعة من بني أعمامه، فلم يزالوا في الاعتقال بدار الأفضل من حارة برجوان إلى أن انتقل الملك الكامل محمد بن العادل بن أبي بكر بن أيوب من دار الوزارة بالقاهرة إلى قلعة الجبل، فنقل معه ولد العاضد وإخوته وأولاد عمه، واعتقلهم بالقلعة، وبهامات العاضد، واستمرّ البقية حتى انقرضت الدولة الأيوبية، وملك الأتراك إلى أن تسلطن الملك الظاهر: ركن الدين بيبرس البندقداري[24] .
ثم قال: قال القاضي الفاضل: وفي يوم الإثنين سادس شهر رجب، يعني من سنة أربع وثمانين وخمسمائة، ظهر تسحّب رجلين من المعتقلِين في القصر، أحدهما من أقارب المستنصر، والآخر من أقارب الحافظ، وأكبرهما سنًّا كان معتقلاً بالإيوان، حدث به مرض وأثخن فيه، ففُكَّ حديده، ونُقل إلى القصر الغربي في أوائل سنة ثلاث وثمانين، واستمرّ لما به، ولم يستقل من المرض، وطُلب ففُقد، واسمه: موسى بن عبد الرحمن أبي حمزة بن حيدرة بن أبي الحسن أخي الحافظ، واسم الآخر: موسى بن عبد الرحمن بن أبي محمد بن أبي اليسر بن محسن بن المستنصر، وكان طفلاً في وقت الكائنة بأهله، وأقام بالقصر الغربي مع من أُسر به إلى أن كبر وشب[25] .
قلت: هذه الفعلة الشنعاء التي فعلها صلاح الدين لا يقرها شرع ولا عرف ولا قانون، فلا أدري بعد ذلك كيف يوصف بالعدل ورقة القلب؟!
7- تقسيمه بلاد المسلمين إلى دويلات جعلها ميراثاً لأولاده وأقربائه:
قال ابن كثير: وكان قد قسَّم البلاد بين أولاده، فالديار المصرية لولده العزيز عماد الدين أبي الفتح، ودمشق وما حولها لولده الأفضل نور الدين علي، وهم أكبر أولاده، والمملكة الحلبيّة لولده الظاهر غازي غياث الدين، ولأخيه العادل: الكرك والشوبك وبلاد جعبر وبلدان كثيرة قاطع الفرات، وحماة ومعاملة أخرى معها للملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر ابن أخي السلطان، وحمص والرحبة وغيرها لأسد الدين بن شيركوه بن ناصر الدين بن محمد بن أسد الدين شيركوه الكبير، نجم الدين أخي أبيه نجم الدين أيوب. واليمن بمعاقله ومخاليفه جميعه في قبضة السلطان ظهير الدين سيف الإسلام طغتكين بن أيوب، أخي السلطان صلاح الدين، وبعلبك وأعمالها للأمجد بهرام شاه بن فروخ شاه، وبصرى وأعمالها للظافر بن الناصر. ثم شرعت الأمور بعد موت صلاح الدين تضطرب وتختلف في جميع هذه الممالك، حتى آل الأمر واستقرّت الممالك واجتمعت الكلمة على الملك العادل أبي بكر صلاح الدين، وصارت المملكة في أولاده كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى[26] .
قال الدكتور حسين مؤنس: قسَّم صلاح الدين الامبراطورية ممالك بين أولاده وإخوته وأبناء أخويه، كأنها ضيعة يملكها، لا وطناً عربيًّا إسلاميًّا ضخماً يملكه مواطنوه[27] .
ومما ترتّب على تقسيم صلاح الدين بلاد الشام ومصر واليمن إلى دويلات وولايات أن سلاطين هذه الولايات انشغلوا بعد ذلك عن عدوّهم الألد وهم الصليبيون بنزاعاتهم وخلافاتهم وحروبهم، وقد ذكر المؤرّخون كثيراً من تلك الحوادث التي كانت من أهم أسباب ضعف المسلمين وتقهقرهم أمام الصليبيين.
قال المقريزي: وتنكر ما بينه [يعني الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان] وبين أخيه الأفضل، فسار من مصر لمحاربته، وحصره بدمشق، فدخل بينهما العادل أبو بكر، حتى عاد العزيز إلى مصر على صلح فيه دخل، فلم يتم ذلك، وتوحّش ما بينهما، وخرج العزيز ثانياً إلى دمشق، فدبّر عليه عمّه العادل حتى كاد أن يزول ملكه وعاد خائفاً، فسار إليه الأفضل والعادل حتى نزلا بلبيس، فجرت أمور آلت إلى الصلح، وأقام العادل مع العزيز بمصر، وعاد الأفضل إلى مملكته بدمشق، فقام العادل بتدبير أمور الدولة، وخرج بالعزيز لمحاربة الأفضل، فحصراه بدمشق حتى أخذاها منه بعد حروب، وبعثاه إلى صرخد، وعاد العزيز إلى مصر، وأقام العادل بدمشق حتى مات العزيز في ليلة العشرين من محرّم سنة خمس وتسعين وخمسمائة، عن سبع وعشرين سنة وأشهر، منها مدّة سلطنته بعد أبيه ست سنين تنقص شهراً واحداً، فأقيم بعده ابنه السلطان الملك المنصور ناصر الدين محمد، وعمره تسع سنين وأشهر بعهد من أبيه، وقام بأمور الدولة بهاء الدين قراقوش الأسدي الأتابك، فاختلف عليه أمراء الدولة، وكاتبوا الملك الأفضل علي بن صلاح الدين، فقدم من صرخد في خامس ربيع الأوّل، فاستولى على الأمور، ولم يبق للمنصور معه سوى الاسم، ثم سار به من القاهرة في ثالث رجب يريد أخذ دمشق من عمّه العادل بعدما قبض على عدّة من الأمراء، وقد توجه العادل إلى ماردين، فحصر الأفضل دمشق، وقد بلغ العادل خبره فعاد وسار يريده حتى دخل دمشق، فجرت حروب كثيرة آلت إلى عود الأفضل إلى مصر بمكيدة دبّرها عليه العادل، وخرج العادل في أثره، وواقعه على بلبيس فكسره في سادس ربيع الآخر سنة ست وتسعين[28] .
وأخبار حروبهم ونزاعاتهم تطول، لا حاجة لذكرها.
والذي ينبغي أن يقال في هذا المقام: إن فتح بيت المقدس الذي يُعدّ من أهم أعمال صلاح الدين قد تبدّد بسبب هذا التقسيم الذين صنعه صلاح الدين؛ لأن هذه النزاعات أدّت بالنتيجة إلى تسليم بيت المقدس للصليبيين من دون حرب كما بيَّنا فيما تقدّم.
هذه بعض المآخذ التي تؤخذ على صلاح الدين، وكل واحدة منها كافية في منع المنصف من التباهي بهذا الرجل الذي يظنّه الجاهل بحاله مفخرة من مفاخر المسلمين، والواقع خلاف ذلك.
الحواشي:
[1] شذرات الذهب في أخبار من ذهب 4/299.
[2] هو خصي كان بقصر الخليفة الفاطمي العاضد، وكان هو المتصرف في أمور الحكم.
[3] الكامل في التاريخ 11/346.
[4] زبدة الحلب من أخبار حلب: 357.
[5] البداية والنهاية 13/6.
[6] أطلس تاريخ الإسلام: 269.
[7] المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (خطط المقريزي) 3/409.
[8] الفتح القسي في الفتح القدسي: 316.
[9] عيون الروضتين في أخبار الدولتين 2/310. ومما يؤسف له أن هذه العبارة محذوفة من طبعة الكتاب بتحقيق أحمد بسيوني، لكنها موجودة في الطبعة التي حقّقها إبراهيم الزيبق.
[10] الشَّوْبَك: قلعة حصينة بأطراف الشام بين عمَّان وأيلة والقلزم قرب الكرك. (معجم البلدان 3/370).
[11] الكامل في التاريخ 11/371.
[12] الكامل في التاريخ 11/392. وقد ذكر ابن العديم الحلبي هذه الحادثة مختصرة في كتاب زبدة الحلب من أخبار حلب: 356 .
[13] الكامل في التاريخ 11/402.
[14] سير أعلام النبلاء 22/282.
[15] زبدة الحلب في تاريخ حلب: 351.
[16] قال الزركلي في الأعلام 8/230: يوسف بن رافع بن تميم بن عتبة الأسدي الموصلي، أبو المحاسن، بهاء الدين ابن شداد (539 - 632 هـ): مؤرخ، من كبار القضاة. ولد بالموصل، ومات أبوه وهو صغير، فنشأ عند أخواله (بني شدّاد) وشدّاد جدّه لأمه، فنُسب إليهم. وتفقه بالموصل، ثم ببغداد، وتولى الإعادة بالنظاميّة نحو أربع سنين، وعاد إلى الموصل، فدرّس وصنّف بعض كتبه، وسافر إلى حلب، فحدَّث بها وبدمشق ومصر وغيرها، ولما دخل دمشق، كان السلطان صلاح الدين محاصراً قلعة (كوكب) فدعاه إليه، وولّاه قضاء العسكر وبيت المقدس والنظر على أوقافه، واستصحبه معه في بعض غزواته، فدوّن وقائعه وكثيراً من أخباره. ولما توفي صلاح الدين كان حاضراً، وتوجه إلى حلب لجمع كلمة الإخوة أولاد صلاح الدين، وتحليف بعضهم لبعض، ثم انصرف إلى مصر لاستخلاف الملك العزيز (عثمان بن صلاح الدين يوسف)، وعرض عليه الظاهر (صاحب حلب) الحكم فيها، فأجاب. قال السبكي: وكان مدبّر أمور الملك فيها. وقال ابن العديم: كانت ولايته قضاء حلب ووقوفها سنة 591، واستمر إلى أن توفي فيها. وهو شيخ المؤرِّخ ابن خلكان...
[17] عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية 2/68.
[18] المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (الخطط المقريزية) 2/292.
[19] الكامل في التاريخ 11/370.
[20] في أدب مصر الفاطمية: 168.
[21] صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والصليبيين: 157، نقله عن مجلة الحج، الجزء الثامن، من السنة الخامسة عشرة، عن مجلة الثقافة، عدد 462.
[22] الكامل في التاريخ 11/436.
[23] الطواشي: هو بهاء الدين قراقوش بن عبد الله الأسدي، وهو أمير نشأ في خدمة صلاح الدين الأيوبي، وناب عنه في الديار المصرية، وكان مولعاً بالعمران، بنى السور المحيط بالقاهرة، والقناطر التي بالجيزة، ولاه صلاح الدين على عكا، ولما استعادها الإفرنج أسروه، فافتكه صلاح الدين بعشرة آلاف دينار، وفرح به فرحاً عظيماً. توفي سنة 577هـ. (راجع خطط المقريزي 3/169، الأعلام 5/193).
[24] المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (خطط المقريزي) 2/448.
[25] نفس المصدر 2/450.
[26] البداية والنهاية 13/7.
[27] عن كتاب: صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين: 132.
[28] المواعظ والاعتبار في الخطط والآثار (خطط المقريزي) 3/409.